وهنالك يجلس فيندهورست قليلا، وهو يستطيع للمرة الأولى منذ عشر سنوات أن يصوغ مطاليبه ثانية، وكان من الممكن أن ينال فيما مضى، ولكن المستشار وجد الثمن غاليا في ذلك الحين، واليوم يلم ببسمارك احتياج ملح، ولا بد من قبول الشروط، ويطالب فيندهورست بإلغاء أشد البنود في القانون المضاد لليسوعيين، ويطالب بتعليم النصرانية في المدارس الابتدائية، ويجادل في المسائل ويناقش فيه مدة طويلة، ويظهر بسمارك علائم التعب ويتكلم عن ضعف صحته، ويعلم فيندهورست خيرا من سواه أن بسمارك - وإن أساء استعمال هذه العبارة ثلاثين سنة - قد تكون عبارته هذه صحيحة في الوقت الحاضر، ويذعر فيندهورست الكاثوليكي من ارتفاع السيل الأحمر، ويرى أنه لا يقدر على عوق تقدمه غير ذلك الساحر الشائب.
وهكذا يوصل إلى النتيجة الغريبة القائلة إن فيندهورست يضرع إلى بسمارك أن يبقى في منصبه! ووجه الغرابة هو أن كل واحد منهما كان - منذ عشر سنوات أو تزيد - يتمنى موت الآخر أو اعتزاله، فلما أصبح اعتزال بسمارك قريب الوقوع طلب إليه فيندهورست أن يظل فوق السرج، ويبقى الأمر معلقا عندما انصرف فيندهورست، ولكن هذا الكاثوليكي قال لصديق له في ذلك المساء: «تراني آتيا من لدن رجل عظيم على سرير موته السياسي.»
والرجل العظيم يود الحياة مع ذلك، والآن يدعو إليه زعيم المحافظين ليعلم مطاليب هذا الحزب، ولكن «أبناء العم» البارونات المالكين، يحتشدون، فيعرفون في ساعات قليلة آخر مشاريع بسمارك، وهم يرصون صفوفهم مرة أخرى ضد هذا الفرع الشرير لدوحتهم، وهم يرفضون أن يحققوا معه، أو تحت إشرافه، ائتلافا فكروا في صنعه بغيره وخلافا له، وهم يرفضون بغلظة أن يأتوا إليه، وهم يبلغون إلى فيندهورست أسباب رفضهم في اليوم التالي طمعا في أن يعرف الإمبراطور رسميا ما هو الشرط الوحيد الذي يعين به العرش أركانه، وفي الوقت نفسه يذهب الكونت لنبرغ ستيرم إلى بوتيشر ويضع نفسه تحت تصرفه ليكون واسطة اتصال بين الحزب والحكومة، وهو يضيف إلى ذلك قوله: «عادت مفاوضة الأمير بسمارك غير ممكنة.»
وعلى المجاهد القديم أن يواجه الآن رءوس السعالي،
1
واليوم يرفع رءوسهم ضده - للانتقام - جميع من ازدراهم في الماضي، واليوم يقتله أبناء طبقته الخاصة أدبيا بدلا من الالتفاف حوله والمحافظة عليه، واليوم يقهر الطاغية عشيرته الأقربون، واليوم يطعن في فؤاده، وليس هذا عمل بطل يا أوكتافيو! وفيما كنت ترى الجميع يهجرون بسمارك كنت لا ترى بجانبه غير عدوه القديم - غير حزب الوسط - وتنتقم ألمانية منه؛ لجبروته، وتنتقم ألمانية من عظمته.
وهكذا تشدب الأيدي الحازمة جميع غصون شجرة البلوط القديمة الهائلة في آن واحد، ولا ترى الآن من يسقط رأس الشجرة الذاوي خدعا لحارس الغابة الجافي!
ولم يبق على حارس الغابة الإمبراطور الشاب غير عمل سهل يقوم به، ويقوي الإمبراطور قلبه فيقرأ مقالات جميع الصحف، ويجتمع بجميع الوزراء والندماء فيرى ما يساورهم من حقد وضيق بسبب المستشار، ويتشجع الإمبراطور في نهاية الأمر ويقنع نفسه بألا يصبر على حزب الوسط، ولا على زعيمه على الخصوص، ويجرؤ أخيرا على اتخاذ خطوة حاسمة، وينبئ المستشار بزيارته له، ولا تفتح الرسالة في تلك الليلة مصادفة، وينادى بسمارك قبيل الساعة التاسعة من الصباح التالي للاجتماع بمولاه الذي جاء في وقت غير مقرر ومن غير سابق تنبيه.
ويبصر ولهلم حل ساعته الكبرى، ويظل واقفا في أثناء الحديث كله فيضطر بسمارك إلى بقائه قائما مع ما يشعر به من تعب في الصباح الباكر على الدوام، ويسأله الإمبراطور بعد كلمات قليلة تمهيدية عن عدم رده فيندهورست، ومن الواقع أن كان الإمبراطور قد أمر الشرطة منذ أسابيع بأن تراقب المستشارية مراقبة وثيقة كما لو كان يصنع فيها نقد زائف، فصار الإمبراطور يعرف جيدا من يزورون المستشار، ثم قال الإمبراطور إن على المستشار أن يستشيره قبل الاجتماع بأناس من ذوي الشأن كفيندهورست.
وهنالك يتميز بسمارك غيظا، وهنالك يبدو عنيفا لاذعا، وهنالك يوضح للعاهل واجبات رئيس الوزراء وحدود حقوق الملك التي لا يمكنه أن يجاوزها، وهنالك يذكر شين ما يوده الإمبراطور من رقابة، وهنالك يصرح بأنه لا يخضع لمثل هذه الرقابة ولا يأذن فيها.
Página desconocida