وليس فناء الأمور بفرانكفورت في المسائل الشخصية من ذنوب بسمارك فقط، وإنما ذلك أيضا من مقتضيات جو البندشتاغ حيث الجميع متساوون في الظاهر عدا النمسة التي لها الصدارة بين نظائرها كما في تاريخ الأزمنة الحديث، وكيف لا ينتظر من ممثل النمسة ألا يهدف إلى إهانة ممثل بروسية حول تلك المائدة، وعلى مشهد من العالم، بعد أن تركت بروسية مكانها منذ ثلاث سنين قاصدة إيجاد مائدة اتحاد أخرى لها بغير النمسة ثم عادت إلى مكانها نادمة؟ والآن يمكن النمسة أن تركن إلى معظم الدول الأخرى، على حين يمكن بروسية أن تعتمد على أصوات أربع إمارات صغيرة واقعة في شمال ألمانية، ويرتاب جميع الدول الأخرى من بروسية؛ لاعتقادها أن بروسية تريد أن تحملها على الخضوع لاتحادها وأنها تحمل فكرة الثورة مستعينة بألمانية السيئة الحظ، وذلك إلى أن النمسة القوية تجتذب إليها جميع أنصار العروش الشرعية، ومن ثم جميع الأمراء تقريبا.
وهكذا لا يجد بسمارك في فرانكفورت أمرا يأخذه على غرة، بل أبصر فيها ما يؤيد وجهات نظره السابقة، حتى إن بسمارك يتكلم في شيبته عن صداقة البلدين، بروسية والنمسة، فلا يراها أكثر من «حلم الشباب نتيجة لحروب الإنقاذ وتأثير المدارس» ويصل بسمارك إلى فرانكفورت خصما للنمسة، ويظل بسمارك مع ذلك دهشا من شدة عداء النمسة لبروسية، وفي فرانكفورت يعلم بسمارك للمرة الأولى خبر برقية الأمير شوارزنبرغ عن موضوع ألموتز القائلة «بإهانة بروسية أو العفو عنها بسراوة»
3
وكانت تلك البرقية المملوءة غطرسة وانتفاخا قد أرسلت أيام دفاع بسمارك عن معاهدة أولموتز في اللندتاغ البروسي، ويا لهول ما يصاب به عجبه عند اطلاعه على تلك الكلمات!
ولم يمض على وجود بسمارك في فرانكفورت ستة أسابيع حتى أعرب عما في نفسه بقوله: «سيظل النمسويون أكثر اللاعبين خداعا كما هم الآن، ولا أعتقد أنهم ينتهون إلى حلف شريف معنا لشمول طموحهم ولخلو سياستهم الداخلية والخارجية من العدل والإنصاف.»
ويحل شهر نوفمبر فيحاول بسمارك إنزال ضربته الأولى، فيقول: «يسير الكونت تون على غرار بوزا في الكلام فيأتي بترهات حول ألمانية الكبرى، وأتم بيانه فأقول: إنه إذا ما نظر إلى الأمور بعينه وجد كيان بروسية والإصلاح الديني أمرين مؤسفين. ألا فليعلم أنه لا يوجد في أوروبة شيء يقال له بروسية «مع العدول عن تراث فردريك الأكبر» كما يصرح به، وإنني قبل أن أشير على بلادي بمثل هذه السياسة لا أرى غير السيف حكما.» فهذه قطعة من محاورة بين حليفتين صديقتين ويمزق اثنا عشر حجابا ويحار المرء من أن حرب بسمارك لم تشهر إلا بعد خمس عشرة سنة.
وينقل نبأ ذلك الجفاء إلى فينة بدقة، ومن الطبيعي أن يزيد الحسد بين الدولتين، والجو حتى في برلين لم يكن ملائما حينما قرأ غرلاخ على الملك بصوت عال طائفة من رسائل بسمارك، فجاء فيها أن مصدر كل بلاء هو ما كان من تسليم إلى النمسة، ومما ورد فيها: «إن من يشاطرني فراشي يسهل عليه أن يضربني أو يسمني أو يخنقني، ولا سيما عند اتصاف من يشاطرني فراشي بالقسوة والنذالة.» وليس مما يساعد على تحسين الحال أن يستدعى الكونت تون وأن يستبدل به ذلك الذي ظل سفيرا للنمسة في برلين حتى الآن.
كان الكونت بروكش أوستن أكثر إمتاعا من تون؛ لحسن اطلاعه على شئون الشرق الأدنى وسمو ثقافته وأصالة أوروبيته، ولكنه كان يعاسر زميله البروسي بعلل أخرى، فإذا عدوت زيارة بروكش أوستن لبسمارك كثيرا ومكوثه عنده طويلا ولطفه في ملاعبة الأولاد وإطالة الحديث معه في الاجتماعات؛ «وجدت صلتي به أوضح من صلتي بأوتون؛ فأوتون يقول الصدق أحيانا، وبروكش لا يقوله أبدا»، وبسمارك يقول - مع ذلك - إنك تستطيع أن تقرأ حقائق الأمور على وجه بروكش، ومن دواعي الأسف أن ترك بروكش - عن إهمال - وثائق ضد بروسية في مكتب باعه، وتلك الوثائق هي مسودات مقالات ثورية لتنشر في الصحف البروسية، فكانت تعزى قبل ذلك إلى الديمقراطيين، ويشير بسمارك باتخاذ تدابير هجومية ودفاعية على ذلك الغرار. ومن الخطأ أن تفضح أساليب ذلك السفير في فينة؛ لما يوجبه ذلك من تعذر بقائه في فرانكفورت؛ فالرأي إذن «أن يجعل غير مطمئن إلى وضعه وأن يسر إلى حلفائنا بالأمر، حتى يتضح لهم شدة صبرنا» ومن الصواب أن ينشر شيء من مقالات بروكش غير الشرعية مع القول ضمنا بأن ريب الحكومة نشأت للمرة الأولى عن اكتشاف تلك الوثائق عند أحد الناس.
وهكذا يسير بسمارك الأمر بدهاء، وبسمارك هو الذي يتهم خصومه بعدم الإخلاص على الدوام، بيد أن بروكش عالم بالرجال، فإليك قوله السافر عن بسمارك: «يعلن فون بسمارك أن بروسية هي مركز العالم. هو ذو ميل عظيم إلى تقويض دعائم الجامعة. لو نزل ملك من السماء ما استقبله بغير سمة بروسية. هو كمكيافيلي مكرا وملمسا فلا يترفع عن أية وسيلة تصل يده إليها، وعلينا أن نعترف بأنه ليس رجلا يقول بأنصاف التدابير. وهو لذلك لا يألو جهدا في القضاء على الجامعة. وهو يسرف في استخدام الصحافة فيعرف أن يلقي الذنب على عاتق النمسة، وهو قد بلغ من التأثر برسالة بروسية ما صرح لي به غير مرة بضرورة توحيد ألمانية تحت سلطان بروسية، ولم يحدث قبل الآن أن لاقيت رجلا مثله مقيدا بعقائده معتدا بنفسه معتمدا على أعماله.»
وذلك الحكم مما كان بسمارك يوافق على صحته، وقد أيده الأعقاب، وما كان بسمارك ليتأخر عن شهر فرده عند أدنى إهانة توجه إلى وضعه البروسي، ويحتد الكونت ريشبرغ الفيني بعد إحدى الجلسات فيعلن أنه يطالب باعتذار في غابة بوكنهايم فيجيب بسمارك عن ذلك هادئا: «ولم نزعج بالذهاب إلى مكان بعيد كذلك المكان، فيوجد محل لتبادل العيارات النارية في الحديقة هنا حيث يجاور ضباط من الألمان والنمسويين، وإنما أطلب أن تأذن لي في تسجيل سبب النزاع؛ لأنني لا أريد أن يعدني مليكي سائفا
Página desconocida