وكم من المشاريع نبتت في رأسي! وكم من الأحلام التي كان يخيل إلي أنها ماتت في نفسي وجدتها تنتفض وتملأ علي خيالي، وأحس أنها قريبة مني لا تكاد تحتمل إلا أن أمد يدي لأقطفها! عاودني الأمل. أحسست وكأني كنت فعلا ميتا وعدت إلى الحياة بطريقة ما، وكأن الموت هو أن نسجن أنفسنا داخل حياة متشابهة واحدة، وكأننا نموت حين نكف عن إدخال الجديد في حياتنا، الموت هو أن ندور في دائرة واحدة مهما كانت تلك الدائرة، حقيقة أحسست وكأني تناولت لتوي جرعة حياة ضخمة، أصبحت بعدها أكثر قوة وأكثر حرية وتفاؤلا وإنسانية وأقوى إرادة. وكل هذا لأني فقط عدت ذات مرة إلى بيتي من شارع آخر غير الذي تعودته!
ترى ماذا يحدث لو عدت كل يوم إلى بيتي من شارع جديد؟ ولو قرأت كل يوم كتابا جديدا؟ وتعرفت إلى شخص جديد؟ وابتكرت طعاما جديدا؟ ومارست تجربة لم أمارسها أبدا؟ (3) لماذا رغم قسوتها نحب الحياة؟
لماذا نستيقظ من النوم ملهوفين ونجري على العمل، من العمل نجري إلى البيت، ونتحمل الرؤساء، والخضوع للمطالب والروتين؟
لماذا نتعب أنفسنا ونعيش، ونتمسك بحياتنا إلى آخر رمق، رغم كل ما قد يكون فيها من ظلم وألم؟
بالاختصار، لماذا الحياة أصلا؟ لماذا يكلف الشجر نفسه عناء النمو وتكوين الثمار؟ لماذا تدافع أحط الكائنات عن بقائها بكل شراهة وشراسة؟ لماذا يتعب الطير نفسه في وضع البيض ورعاية الأجنة وملء السماء أسرابا وأفرادا؟
هذه الأسئلة خطرت لي في أثناء كتابة موقف من مواقف قصة أخيرة، وردت فيه على لسان البطل، ولكني لم ألبث أن وجدت نفسي أولى من البطل بمناقشتها، وجدتني أخرج من القصة وينتقل التساؤل إلى لساني أنا، حقيقة ما دامت الحياة آخرتها الموت، ما دام لها نهاية محتمة، فلماذا البداية أصلا؟ وما معنى البداية والحياة والنهاية؟ لا أعتقد أني، أو بطل القصة، وحدنا في ذلك التساؤل، يخيل لي أن كلا منا لا بد أن جاء عليه وقت، أو سيجيء عليه وقت، يجد فيه أسئلة كهذه تملك عليه عقله وتفكيره، ويجد نفسه في النهاية يتساءل مثلنا: لماذا أحيا؟
الفلاسفة من قديم الزمان طرحوا السؤال وحاولوا الإجابة عليه، بعضهم قال: إن دافعنا الأول للحياة هو التكاثر والتناسل، وبعضهم قال: بل هي غريزة حب البقاء الكامنة في كل كائن حي، وأكثر من إجابة تطوع بها أكثر من فيلسوف، ولا يزال السؤال بغير جواب شاف. وجدت أني أنا الآخر مطالب بالبحث عن جواب، فبرغم كل ما تقرؤه لأرسطو وأفلاطون وكانت وبرجسون ودوهرنج وراسل وإنجلز، لا بد أن تجد نفسك في أحيان مطالبا - لكي تؤمن - أن تبحث أنت عن الحقيقة.
ولقد حاولت أن أبدأ من البداية، فأقول لنفسي: إن الحياة - ومنها الحياة الإنسانية - نوع من الحركة، وقوانين الحركة تنص على أن من خواص المادة أن تحافظ على حالتها الكائنة عليها، فإذا كانت تتحرك فمن خواصها أن تظل محافظة على حركتها تلك، وإذا كانت ساكنة فمن خواصها أن تظل محافظة على هذا السكون، إلى أن تتدخل قوة خارجة عنها تغير من حريتها أو سكونها.
ممكن أن ننقل الفرض خطوة أخرى، ونقول: إذا كان هذا هو القانون فلا بد أن كل مادة حية من خواصها أن تظل تحتفظ بحالتها الحيوية، حتى تتدخل قوة ترغمها على التخلي عن حالتها تلك، وتدخلها في حالة أخرى، بمعنى أدق، نحن لسنا أحياء لأننا نحب البقاء، العكس هو الصحيح، نحن نحب البقاء لأننا أحياء، ولا يمكن أن نجد كائنا حيا أو مادة حية لا تحب البقاء حية، فهي رغما عنها - بحكم خاصيتها - لا بد أن تكون كذلك، وأيضا لن تجد مادة غير حية إلا وهي في حالة تمسك واحتفاظ بانعدام حياتها، تقاوم أن تدب إليها الحياة مثلما تقاوم الحياة أن يدب السكون إليها. كل شيء في هذا الكون يعمل على أن يظل على حالته، فإذا تغير فلا بد أن يكون التغير رغما عنه لا بإرادته.
الحقيقة الثانية
Página desconocida