كان هذا من شهور مضت، وكل شيء بأوان كما يقولون. وها هي القصة. (23) الكابوس
تصورت أن الأستاذ توفيق الحكيم صحا من نومه في الأسبوع الماضي، وهو يكاد يختنق من كابوس مخيف. كان جالسا كعادته على قهوته المفضلة في الإسكندرية لا به ولا عليه، والدنيا صيف وعصرية، والجو جميل يغري بالسرحان أو على الأقل بتأمل الحسان، وإذا بأحد معارفه يطب عليه فجأة. سلام عليكم. سلام ورحمة الله ... اتفضل. قعد الرجل ودون انتظار لصفقة توفيق الحكيم صفق هو وجاء الجرسون. هات شيشة ... جاب شيشة. فرد القادم «اللي» وبالكاد حذف أنفاسها وأشعلها، وإذا بصديق آخر يطب. سلام عليكم. سلام ورحمة الله، وقعد وجاء الجرسون. تشرب إيه؟ قهوة. يدوبك شفط شفطتين وإذا بقادم آخر جاء وسلم وصفق وطلب، ورابع وخامس وسادس وعاشر، والقعدة تكبر وتكبر والأستاذ توفيق يشرق ويغرب ويتحدث بحماسه المعهود عن الأدب والفن ووكلاء النيابة والمجتمع اللغوي وأزمة النقد والنقاد، ورغم حماسه الشديد فأهم ما كان يشغله في ذلك الوقت هو الكوب الزجاجي الفارغ الذي يضع فيه الجرسون ورق الحساب؛ إذ كان قريبا جدا منه، وكلما تضخم عدد القادمين كان ورق الحساب يتضخم هو الآخر. ودقات قلب توفيق الحكيم تزداد، فهو متأكد طبعا أنه لن يدفع كل الحساب، ولكن وجود هذه الكومة الضخمة من أوراق الحساب قريبة جدا منه خطر على أية حال، أو هو على الأقل وضع غير مريح بالمرة. وعلى هذا فطوال حديثه عن الأدب والفن كان الأستاذ توفيق الحكيم مشغولا بزحزحة الكوب بدفعات خفيفة غير ملحوظة أحيانا، وبنظراته وبعينيه أحيانا أخرى حتى تصبح المسافة بينه وبين الكوب مأمونة. مأمونة بالقدر الذي لا يسمح لأبرد جرسون أن يأتي ويقف على رأسه ساعة الحساب.
ولكن ساعة الحساب جاءت، وجاء الجرسون الخواجة بسمنته، وسترته البيضاء المتسخة، وهليهليته الإجريجية المعهودة، وتناول الأوراق وظل يحسب: كمسة وكمسة أشرة ... ستين ونس ... تسعين ... مية وكمسة.
وطبعا كان الأستاذ توفيق لا يلقي للرجل ولا لحسابه بالا كثيرا، فهو كان قد أخذ واحد قهوة بشلن. فقط كان ينتظر أن يحاول أحد الجالسين دفع الحساب كله فيحتج ويصر على أن يدفع حسابه على الطريقة الإنجليزية.
ولكن أغرب ما في الأمر أن الجرسون انتهى من حساب فاتورته ووقف ينتظر الدفع، دون أن يتحرك واحد من العشرة الجالسين أو يبدو عليه أنه يهم بدفع الحساب.
قال الأستاذ توفيق لنفسه لا بد أنهم متشاغلون، فلأتشاغل أنا الآخر. وفعلا سرح وسهم، وانتابه ذهول فني حاد، وراح يلعب عصاه ذات اليمين وذات اليسار، أن أحدا من حضرات الجالسين يتحرك من رابع المستحيل. بل حدث ما هو أكثر. الجرسون اللعين اختاره دونا عن بقية الجالسين وتسمر أمامه، وأبى أن يتلحلح ومضى يدعي مسح الترابيزة، ويوجه لتوفيق الحكيم نظراته الجرسونية المعروفة التي لا تعني سوى شيء واحد: إيدك بقى ع الحساب.
وأحس الأستاذ «توفيق الحكيم» أنه أمام مؤامرة خبيثة واسعة النطاق، يشترك فيها هؤلاء العشرة الجالسون والجرسون والقدر، وتريد دفعه إلى أن يتحمل هذا الحساب وحده، سواء أراد أم لم يرد.
وانتاب توفيق الحكيم غيظ شديد. لقد كان مستعدا أن يتحامل على نفسه ويدفع ثمن مشروب آخر، أما أن يتحمل حساب عشرة أناس لا يعرفهم طبوا عليه هكذا فجأة وطلبوا عشرة طلبات، ثمن الواحد منها لا يقل بالبقشيش عن عشرة القروش برزالة ودون أن يعزم هو أن يطلب، وتأتي ساعة الحساب فيبلمون هكذا ويجلسون كالجثث المحنطة، فأمر يفجر الدم من الشرايين.
اغتاظ الأستاذ توفيق جدا، وأحس بالضيق يكتم أنفاسه حتى كاد يبكي كالأطفال، ويقول: والله مانا دافع.
والمصيبة أن المشهد طال وزاد عن حده. الجرسون واقف يتململ ويتمحك ولا يحول أنظاره عنه، والجالسون متشاغلون وكأنهم ليسوا هنا، وهو محرج حرجا شديدا لإحساسه بأنه مطالب وحده بالدفع، ويقينه من أن شيئا كهذا لا يمكن أن يحدث حتى ولو شنقوه، والوضع لا حل له ومع هذا فهو مستمر، وكأن ثمة قوى كونية غامضة قد أوقفت الزمن عند تلك اللحظة الحرجة وأبت عليه أن يتحرك.
Página desconocida