حكاية صغيرة كما رأيتم، ولكنها لقنتني درسا لا أزال أعيه؛ إذ دلتني يومها على خطورة الكلمة، وبالذات كلمة الثناء، كلمة ثناء صغيرة قد تقولها حتى وأنت غير مؤمن بها ممكن أن تكهرب شخصا بريئا، وممكن أن تدفعه للنجاح الهائل أحيانا، وأحيانا للسقوط في الهاوية، أو على الأقل أمام وابور زلط، بل غيرت هذه الحادثة من مفهومي للغرور، فقد كنت أعتقد قبلا أن الغرور شيء ينبع من داخل النفس ويجعل صاحبه يؤمن بأنه يملك قدرات هو في الحقيقة لا يملكها، تأكد لي يومها أن الغرور شيء يفد على الشخص من الخارج، من المحيطين به واللاصقين، وأنه ينتج عن سماعه لكلمات الثناء فقط، فالكائن منا يتحرك إلى الأمام تحت تأثير قوتين متضادتين متناقضتين؛ قوة ثقته بنفسه وقوة عدم ثقته بها، قوة إيمانه بما لديه من ملكات وقوة إحساسه بنقص ما لديه من ملكات، قوة رضائه عن نفسه وقوة سخطه عليها، قوة إحساسه أنه يصيب وقوة إحساسه أنه يخطئ. والثناء فقط، كالدفع من ناحية واحدة فقط، يجعل خط حركة الإنسان ينحرف إلى الناحية المضادة، ثم لا يلبث بمواصلة الثناء أن يزداد انحرافا إلى درجة تميل حركته الأمامية لتصبح قوسا، ثم دائرة، ثم دائرة مفرغة يتحرك فيها حول نفسه، ويكف عن قلقه لبلوغ الأحسن وإكمال النقص. الغرور إذن نهاية وتوقف وشلل يصيب الكائن الإنسان، سببه تلك الجرعات السامة من الثناء التي يسقيها له أناس يهمهم التقرب إليه، جرعات يتناولها الإنسان بلا إحساس بخطورتها في أول الأمر، ولكنها بمضي الوقت تصبح إدمانا، فيسمع المغرور الثناء الواضح الزيف ومع هذا يطلبه، ويفعل المستحيل ليظفر به حتى وهو يراه رياء وتملقا؛ إذ لا يملك إلا أن يتجرعه؛ ربما ليحس أنه يتحرك، ربما ليخدر وعيه عن شعوره الداخلي العميق بأنه واقف في مكانه ومشلول.
لكي يظل الإنسان ماضيا في حركته إلى الأمام لا بد من كلمة أخرى تقال له، كلمة تدفع من الناحية الأخرى، كلمة النقد. فالثناء من ناحية، والنقد من ناحية أخرى هما الطريقة الوحيدة التي لا يعرف البشر سواها للحركة. فالإنسان لا يتحرك وحده، إنه يتحرك في جماعة، وإذا كان دور الفرد بالنسبة للجماعة أمرا معروفا ومشهورا، فدور الجماعة بالنسبة للفرد دور أكثر أهمية؛ فكلماتها وآراؤها وهمساتها وزجرها هي التي تتغذى عليها نفسه، وبالتالي تستمر تحيا وتتفاعل وتتحرك. وأي فرد في أي جماعة إذا وجدت فيه ناحية تستحق الثناء فلا بد ستوجد فيه ناحية تستحق النقد، وإذا وجدت فيه ناحية تستحق النقد فلا بد أن تجد فيه ناحية تستحق الثناء. (14) بصراحة، نحن نستعذب الشكوى
فليتهمني البعض بأني أتجنى وأطلق أحكاما عامة، وآخذ المجموع بذنب أفراد، ولكن الحقيقة أننا شعب كثير الشكوى، بدأت أومن بها وأنا أتصفح اليوم خطابات جاءتني وأنا أجلس مع الزملاء في الجريدة، وأنا أقضي العيد في البلدة، وأنا في الترام والأتوبيس وفي أي مكان. بدأت أومن أننا توصلنا لحل عبقري يعفينا من مسئولية حل مشاكلنا بأنفسنا، هو الشكوى منها والاكتفاء بالشكوى، بل لا مبالغة إذا قلت: إننا أدمناها واستعذبناها وأصبحت متعة أن يئن أحدنا للآخر بأنين أكثر استدرارا للدمع من أنينه.
إني لأتساءل ماذا حدث لنا؟ المفروض أن الشكوى مثلها مثل البكاء علامة عجز كامل، والمفروض أن يحاول كل منا أن يحل المشكلة التي تواجهه بنفسه، فإذا عجز استعان بأقرب الناس إليه، فإذا عجز طلب العون من المعارف والمجتمع، فإذا فشل هذا كله في حل مشكلته كان له أن يشكو من الزمن والحظ ويتألم، ولكننا نبدأ حل أي مشكلة بالعجز عن حلها بالشكوى منها، فإذا فشلت الشكوى في حلها رحنا نفكر في أنسب شخص ممن نعرفهم لنعهد إليه بمهمة حلها، فإذا لم نجد لجأنا - وأمرنا إلى الله - إلى أنفسنا لحلها، ونفعل هذا كله دون خجل أو حياء، وكأنه ليس عيبا أبدا أن نحمل الآخرين آلامنا ومتاعبنا حتى ونحن ندرك أن لديهم هم أيضا آلامهم ومتاعبهم، عملية تنصل مخجلة من المسئولية، عملية لا يقوم بها إلا العبيد حين كانوا يعتبرون أنفسهم غير مسئولين عن أنفسهم، يعتبرون سيدهم في الماضي، والحكومة أو غيرها في الحاضر، هو المسئول عنهم وعن حل مشاكلهم، فإذا لم نحل لهم المشاكل دون أن يحركوا ساكنا بكوا واشتكوا وطالبوا برفع الظلم. ولماذا لا تتولون أنتم بأنفسكم رفع هذا الظلم؟ لماذا تفعلون كالأطفال وتطلبون من غيركم أن يحقق لكم ما تريدون؟ ولماذا لا تحققون أنتم وبسواعدكم ما تريدون؟
يقولون لك: حاولنا وفشلنا، طيب، وما فائدة الشكوى إذن؟ نحن نفضفض بها يا أخي، أتريد أن ننفجر؟ أجل، هذا هو بالضبط المطلوب من أي إنسان مسئول عن نفسه، أن يغتاظ فعلا، لا إلى درجة الانفجار، وإنما فقط إلى درجة أن يعمل، بل حتى إلى درجة الإحساس بأن مشكلته لن تحل إلا إذا حلها هو بنفسه. هذا هو الفارق الدقيق الخطير بين الطفل والرجل، بين الشعب المستعمر الذليل والشعب الحر المستقل. إني لأسأل كل من سبق وبكى واشتكى: ماذا فعلت الشكوى؟ وأسأل كل من لا يزال يشكو: أي كائن وهمي تطلب منه أن ينصفك ما دمت أنت لا تنصف نفسك وتنوح كالعجزة والأرامل على حالك؟ لقد تحولنا إلى معارض متنقلة للأنين والشكوى. كل منا ينفرد بالآخر ليشكو همه، ليشحذ منه بعض الرثاء، كل منا يتشبث بالآخرين ويستصرخهم لحل مشكلته، والآخرون يستصرخوننا لحل مشاكلهم، والنتيجة أن يضمنا جميعا قيد الشكوى الذليل ويبقينا في أماكننا.
نحن لا يمكن أن نقف كشعب ما لم نقف كأفراد، ولن نقف كأفراد ما لم يؤمن كل منا أن باستطاعته أن يقف فعلا، ويمشي، ويخطي العتبة، دون حاجة إلى دادة، ودون حاجة لاستدرار عطف أناس أولى بالعطف. (15) زيارة السيد البدوي
ما كدت أصبح في طنطا حتى فكرت بطريقة غريزية تلقائية في زيارة السيد البدوي، ولم أكن أتوقع أبدا أن أكتشف خلال الزيارة أعجب وأغرب معجزة عرفتها في حياتي، والذي حدث أنني دخلت الضريح وملست على النحاس، وقرأت الفاتحة وأنا أدور حول المقام، تأملت النسوة المتعلقات بحلقات النحاس يستحلفن السيد البدوي في همس مستميت ملح، وطلبة الأزهر والتوجيهية وهم يذاكرون ويصلون صلاة حارة جدا هدفها النجاح لا ريب، وسرحت قليلا مع الضوء الكهربي الأخضر المنبعث من داخل القبة العالية، والسقا الذي يوزع ماء من قربة غريبة الشكل. ولم يستوقف بصري من هذا كله إلا نحاس المقام؛ إذ كان ناعما جدا ومتآكلا بطريقة تدل على أن مئات الملايين من الأيدي لا بد قد ملست عليه وتشنجت ممسكة بحلقاته.
وإلى هنا كدت أغادر المسجد وأنا غير راض تماما عن الصورة التي رأيتها مفضلا ألف مرة أن أحتفظ لنفسي بالصورة التي رسمتها للضريح في خيالي، لولا أني تذكرت أنهم كانوا يقولون لنا، ونحن صغار، أن ضريح السيد البدوي يوجد به حجر مطبوع عليه آثار أقدام النبي عليه السلام، والحقيقة أني كنت - وحتى وأنا صغير - لا آخذ هذا القول مأخذ الجد، وأعتقد أنه مجرد خرافات وتهاويل، ولكني قلت لنفسي أسأل، وسألت وإذا بي أفاجأ مفاجأة كبرى، فقد كان الأمر صحيحا، وفي ركن من الضريح كانت هناك حقيقة كتلة ضخمة من حجر البازلت الأسود حولها حاجز حديدي سميك، ومطبوع عليه آثار قدمين كبيرتين، وقفت مذهولا أرقب الجمع المتكاثر حول الحاجز، جلابيب وبدل وملاءات سود وكل يحاول أن يدخل يده من حديد السور الضيق ويلمس الحجر ويتبرك به، وقفت مذهولا أستعد لأضخم تغيير سيعتري حياتي حين أنبذ كل علم أو منطق وأبدأ أومن بالخوارق والمعجزات، وأي علم ممكن أن يؤمن به وأمام عينيه آثار أقدام مطبوعة في الصخر بقوة مهولة خفية؟ يستطيع أن يمد أصابعه ويلمسها، ويستطيع أن يلتقط لها صورا ويضع إصبعه في عين كل من يحاول أن ينكر أو يكابر؟
ولكن، ربما بركة السيد هي التي دفعتني لكي أزاحم وأقترب جدا من السور والحجر وأفحص آثار القدمين المطبوعتين، ولم يحتج الأمر فحصا أو تدقيقا، فمن النظرة الأولى أدركت ألا معجزة هناك ولا يحزنون، فقد كان واضحا أن أثر القدمين مطبوع بفعل فاعل، وأنه محفور في الصخر بإزميل حفار بدائي، واضح أيضا أنه لا يعرف الكثير عن شكل الأقدام وتشريحها.
واعتراني الغضب، فقد أدركت أن هؤلاء الناس الطيبين المتزاحمين، وكل الملايين التي زارت الضريح قبل هذا والذين سيزورونه هم ضحية خدعة ساذجة لا أعرف من تسبب فيها، ولكني أعلم تماما من يسأل عنها، فإدارة الجامع الأحمدي أعتقد أنها موكولة لوزارة الأوقاف، وأعتقد أيضا أنها المسئولة عن هذه المعجزة الزائفة وعن الترويج لها، وعن إحاطتها بذلك السور الحديدي المتين.
Página desconocida