إنني لا أعرف ماذا فينا نحن المصريين يجذبنا - كاليويو - بشدة وبقوة وباستماتة إلى هذه البقعة من سطح الكرة الأرضية؟ وكأنما قد دفن لنا «عمل» أو شددنا إليها بتعويذة، في قلب لندن في ميدان ريجنت أو بيكاديللي، الأنوار والفتارين والحركة الهائلة المائجة والمتعة على قفا من يشيل وسحر الحضارة الأوربية الخارق، ولكنك في لحظة تذكرها تومض قاهرتك في مخيلتك فكأنما يومض الحق، كأنما تومض الأحلام الجميلة فيذوب شارع ريجنت وميدانه، تذوب حضارة أوربا، وتتجرد وتقف وكأنك في الصحراء الكبرى، أو في قلب المحيط الأطلنطي قد انتقلت بكل ذرة حياة فيك إلى مصر، ترويها بالدمع إن استطعت.
إنها عزيزة علينا وغالية، وكلما قابلت أجنبيا زار مصر ووقع في حبها أكاد أغار عليها من حبه، إنها تعز على المرء حتى وهو في قلبها هنا، أكاد كل صباح أصحو من النوم لأقبلها، وأقول لها: كيف حالك اليوم يا مصر؟ كيف أصبحت؟ كيف داويت الجرح الذي خلفه التروللي باص؟ وأنت يا نيلنا ماذا دهاك حتى تبتلع أبناءنا بالجملة وكأنك أصبت في عقلك بلوثة نهم وجشع؟ أم تراك في حنين - وقد أقمنا السد ومنعنا فيضانك - إلى عروس النيل نفتدي بها شرك؟ ألا ما كان أحكم أجدادنا حين كانوا يفتدون مئات الأرواح بروح واحدة، وما أسخف مهندسينا وأخصائيينا اليوم حين يقررون أن حوادثك ليست سوى قضاء وقدر، لا علاقة لها بإهمال أو بعطب أو بشيء يدل على تقصير.
المهم، تلوح القاهرة دائما ويتجدد الشجن، ولكن السعادة تتدفق بأعظم وأروع تدفق، والقلب كالموشك على لقاء الحبيبة ينبض، وأقسم أن النبض يسرع، وألهث، بعد ثوان سيلامس العجل أرضك، وحتى لو انفجر العجل ومتنا فسنموت هنا ولن نتمزق على أرض غريبة، ولن نتجمد على الثلج، على الأقل سيتاح لنا بجزء من اللحظة أن نستنشق قبضة هواء اختلطت بترابك ولامسته، جزء حمل معه لا بد أريج أذرتنا، وضربات فئوس عمالنا، ورذاذ سبابنا.
ولكنا دائما وأبدا، وإلى أن يقدر الله، نهبط في سلام، وللفرحة القصوى أحياء، أجزاء عائدة إلى الكل الكبير، أخيرا بعد البرد والمطر والعواصف والثلج والترمومترات القابع زئبقها متجمدا في القاع، تلفح وجوهنا نسمة الحب الدافئ؛ أقصد الهواء، هواءك يا أرضنا، أرض كل هؤلاء الناس العرايا والمثقفين، حتى أرض لصوصك وخفرائك ولومانجيتك، أرضنا كلنا بلا تمييز ولا تحيز ولا استئثار. أتفهمين؟
وصحيح أن الإجراءات التي تتخذ فيما بين الطائرة وباب الخروج من المطار إجراءات تكاد تجعل الإنسان يفكر في العودة من حيث أتى، إلا أن الإنسان يحتملها والسلام، خاصة هذه المرة، فلقد صدمت حقيقة بمشهد حوالي عشرين ضابطا وصف ضابط يقفون عند الجوازات، ولقد مررت ورأيت بلادا كثيرة شيوعية ورأسمالية وبين بين، ولم أر في مطار من مطاراتها هذا العدد المرعب من ضباط الشرطة بالملابس الرسمية، بل إن ضباط الجوازات في معظم بلاد العالم يرتدون الملابس المدنية حتى لا يفزعوا - ولا مؤاخذة - القادمين! وإني لأتساءل عن السبب في هذا العدد الكبير وعن تواجدهم هكذا بطريقة تجعل الإنسان يعتقد كأن شيئا، لا سمح الله، قد حدث أو يوشك أن يحدث.
في الليلة الرابعة عشرة ...
في الليلة الرابعة عشرة في بولندا أحسست بالحنين إلى مصر وإلى اللغة العربية، وتجربة غريبة أن توجد في وسط شعب يتحدث لغة لا تفقه فيها حرفا واحدا - واللغة البولندية من أصل سلافي، واللغات السلافية كانت بعيدة عنا تماما، وأعتقد أنها لا تزال - وأن ترى الحياة كاملة تدور حولك وتسير بكلمات ومصطلحات أنت تجهلها تماما. تستمع وتحاول أن تخمن، وتخطئ أخطاء بشعة في التخمين، والحياة سادرة سائرة، أنت وحدك الذي لا تعرفها، تجربة تدفع لتأمل كثير، ولكنها تدفعك أكثر إلى الحنين إلى لغتك وموسيقاك وتكوينك النفسي، وهكذا صممت أن أجد القاهرة، في غرفة الفندق لحسن الحظ هناك جهاز راديو ضخم، وبنظرة إلى حجمه قررت إما أن يستحضر لي الجهاز القاهرة، وإما على الله العوض في الصناعة البولندية، والمشكلة كانت أن أعثر على الصوت العربي العزيز بين أربع موجات قصيرة واثنتين متوسطتين وواحدة طويلة، أعددت نفسي لعملية بحث، كان غير مهم عندي لو استغرقت الليلة بأكملها، ولكم أن تتصوروا مبلغ ذهولي حينما أدرت المفتاح قليلا على أول موجة قصيرة صادفتني، وإذا بي أذنا لأذن هكذا مع صوت من؟ مع أم كلثوم، مع اللغة العربية والقاهرة وموسيقانا وتكويننا النفسي مرة واحدة مفاجئة، ولا غلوشة ولا مطبات صوتية، بل إرسال ثابت وكأني أسمعها من المنصورة وليس من وارسو، وفي لحظة انقلبت وارسو إلى المنصورة، وشعور الغربة إلى ونس عارم محيط، حتى مستمعي السيدة أم كلثوم الذي يضايقني ترديدهم المتصل للآهات تلو الآهات، وكأنهم كورس إغريقي مفروض، كنت أستعذب منهم الأصوات وأحس كأني بينهم، وأم كلثوم ما أروع «سخوت» و«بلغت بالجود» و«الاشتراكيون أنت إمامهم»، وهي تأتيني من على بعد أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر، فيها سيال عاطفي يوشك الوصول إلى القمر، وفي حلاوة من حلاوة عسل نحلنا، وشربة «القلة» من مائنا تمخر في عباب نفوسنا، تحمل رائحة «تقليتنا» وأشجاننا وخرافاتنا وحلقات ذكرنا، شكرا لهؤلاء المجهولين الذين أقاموا هذا الإرسال القوي لإذاعتنا، شكرا للمذيع حين قال في النهاية وقد حسبتها باريس أو طنجة، هنا القاهرة. (8) الحر
انفتح أكثر من مليون حنفية، وتدفق الماء يغسل مليون رأس ووجه وقفا، وبدأ أهل القرية يومهم مبلمين متضايقين، بوز كل منهم شبرين، وعلى استعداد تام لخلق مشاجرة حامية إذا وجد الشاي ناقصا سكرا، أو إذا طالبه ابنه بالمصروف، أو إذا لم يجد الهباب الشبشب «اللي قلت مليون مرة لازم يفضل متنيل هنا تحت السرير».
وما كادت آلاف الأبواب تفتح، وتفرغ آلاف البيوت محتوياتها من الأفندية والعمال والطلبة، حتى بدأ الناس يدركون سبب الضيق الذي صاحب يقظتهم؛ إذ كان الصباح أحر صباح عرفوه في حياتهم، صباح بدأت حرارته تصل إلى التاسعة والثلاثين في غمضة عين، صباح لم يستمر أكثر من ربع ساعة، قضاها الموظفون يحتسون القهوة ويرسلون آلاف السعاة إلى آلاف محلات الفول والطعمية والبسكوت استعدادا لبدء العمل، ولكن العمل لم يبدأ ... بدأ الحر. «دي ما حصلتش» قالها مليون جار لجاره وزميل لزميله ومليون أم محمد لأم فيفي، وأعقبتها أو سبقتها مليون لعنة أصابت بئونة، وذلك المنخفض السخيف الذي حدث في الصحراء وكان السبب في تلك الموجة المفاجئة من الحر.
وأصبحت الحرارة 40°، وبدأت الحمى تجتاح القاهرة. عشرة آلاف كف على الأقل ارتفعت وهوت على عشرة آلاف صدغ من أقلام ساخنة جدا، لم ترفع لردها أكثر من خمسة آلاف كف ربما لنقص في الشجاعة، وربما للحكمة القائلة «بات مضروب ولا تبات ضارب»، وبدأت الأعصاب تلتهب وتتحول إلى أسلاك نحاسية ساخنة، وبدأت آلاف العربات تتأرجح. الدركسيون ملتهب، والبنزين ملتهب، والأسطى محمود محموم، واوعى يابن ال... وطاخ! حادثة، وصفارة، ألف صفارة، وأربعة آلاف جنحة، ومليون خناقة، وأكثر من أربعة ملايين يمين باطلة أقسمها سكان القاهرة، ومليار مرة تقلقلت عظام الآباء والأجداد لتحتمي من اللعنات والدعاوي التي تتساقط عليها بالأكوام.
Página desconocida