غادرت كيمبردج عام 1894م، وأنفقت بعد ذلك زمنا طويلا خارج بلادي، فلبضعة أشهر من عام 1894م اشتغلت ملحقا شرفيا في السفارة البريطانية بباريس، حيث كان من واجباتي أن أنسخ الرسائل المطولة لإقناع الحكومة الفرنسية بأن جراد البحر (اللوبستر) ليس من فصيلة السمك، وقد أجابت الحكومة الفرنسية بأنه كان من السمك في سنة 1713م، أي في السنة التي عقدت فيها معاهدة «أوترخت»، لم أجد في نفسي رغبة في السلك السياسي، وتركت السفارة في ديسمبر سنة 1894م، وعندئذ تزوجت وقضيت الشطر الأكبر من سنة 1895م في برلين أدرس الاقتصاد والديمقراطية الاشتراكية الألمانية، ولما كانت زوجة سفيرنا هناك ابنة عمي، فقد دعيت مع زوجتي إلى عشاء في السفارة، لكن زوجتي ذكرت في الحديث أننا قد حضرنا اجتماعا اشتراكيا، فأغلقت السفارة البريطانية بعدئذ من دوننا أبوابها، وكانت زوجتي أمريكية من مدينة فيلادلفيا، فقضينا في أمريكا ثلاثة أشهر من عام 1896م، وزرنا أول ما زرنا هناك منزل الشاعر «وولت وتمان» في مدينة كامدن من ولاية نيوجرسي، إذ كانت زوجتي تعرفه حق المعرفة، وكنت أنا معجبا به أشد الإعجاب، إلا أن هذا الارتحال قد عاد علي بأكبر الفائدة؛ لأنه أبرأني من مرض النظرة الإقليمية الذي أصابتني به كيمبردج، فقد أتيح لي بصفة خاصة أن أطلع على مؤلفات «فيشتراس» الذي لم يذكره لي أبدا أحد من أساتذتي في كيمبردج، ثم استقر بنا المقام بعد هذا الارتحال في كوخ لعامل في مقاطعة سسكس في إنجلترا، وقد أضفنا إلى الكوخ غرفة فسيحة للعمل، وكان لي عندئذ من المال ما يكفيني، بحيث أعيش في ميسرة بغير حاجة إلى عمل أرتزق منه؛ ولذلك استطعت أن أنصرف بفراغي كله إلى الفلسفة والرياضة، ما عدا الأماسي، إذ كنا نملؤها بقراءة التاريخ قراءة مسموعة الصوت.
كانت لي بين عامي 1894م، 1898م عقيدة في إمكان البرهنة بالفلسفة الميتافيزيقية على أشياء كثيرة تقال عن الكون، وهي أشياء أوهمني شعوري الديني عندئذ بأنها موضوعات هامة، وانتهى بي قراري إلى أن أتجه بحياتي إلى الفلسفة، وقدمت رسالة أحصل بها على درجة «الزمالة»، جعلت موضوعها أسس الهندسة، فصادفت الرضا عند «وورد» و«وايتهد»، ولو لم يثنيا عليها لكنت غيرت اتجاهي إلى دراسة الاقتصاد التي بدأتها في برلين، فإني لأذكر ذات صباح إذ كنت سائرا في متنزه «تير جارتن» في برلين كيف وضعت لنفسي خطة مقتضاها أن أكتب سلسلة من الكتب في فلسفة العلوم، صاعدا بها صعودا متدرجا نحو ما هو أكثر تعينا، فأبدأ بتجريد الرياضة، ثم أنتقل خطوة خطوة إلى غاية التعين في علم الحياة (البيولوجيا)، وكذلك رجوت عندئذ أن أكتب سلسلة أخرى من الكتب أعالج بها المشكلات الاجتماعية والسياسية ، بادئا هذه المرة بالعلوم المتعينة منتهيا بما هو مجرد، ثم أقيم آخر الأمر بناء على غرار ما قد صنع هيجل، فأكتب موسوعة أجمع فيها بين النظر والتطبيق، تلك خطة أوحى بها إلي هيجل، فلما انحرفت بفلسفتي بعدئذ عن الاتجاه الهيجلي، بقي لي شيء من تلك الخطة الأولى، ألا ما كان أهمها لحظة، تلك التي صممت لنفسي فيها ذلك البرنامج! وما أزال حتى الآن أحس بذاكرتي ضغطة قدمي على الثلج الذائب، وأشم الأرض اللينة الرطبة التي كانت بشيرا بزوال الشتاء.
لقد حدثت لي خلال عام 1898م عدة أحداث جعلتني أنفض عن «كانت» وعن «هيجل» في آن معا؛ من ذلك أني قرأت كتاب هيجل «المنطق الأكبر»، فكان رأيي فيه عندئذ - ولا يزال هو رأيي إلى اليوم - أن كل ما قاله هيجل عن الرياضة كلام فارغ خرج من رأس مهوش، كذلك حدث في ذلك العام ما جعلني أرفض براهين «برادلي» التي أراد بها أن ينفي التكثر في الأشياء لنفيه وجود ما بينها من علاقات، كما رفضت كذلك الأسس المنطقية للمذهب الواحدي، وكرهت النظرة الذاتية التي ينطوي عليها «الحس النقدي» في فلسفة كانت، ولولا تأثير «جورج مور» في تشكيل وجهة نظري لفعلت هذه العوامل فعلها بخطوات أبطأ، فقد اجتاز «جورج مور» في حياته الفلسفية نفس المرحلة الهيجلية التي اجتزتها، لكنها كانت عنده أقصر زمنا منها عندي، فكان هو الإمام الرائد في الثورة، وتبعته في ثورته وفي نفسي شعور بالتحرر؛ لقد قال برادلي عن كل شيء يؤمن به «الذوق الفطري» عند الناس إنه ليس سوى «ظواهر»، فجئنا نحن وعكسنا الوضع من طرف إلى طرف، إذ قلنا إن كل ما يفترض «الذوق الفطري» عندنا بأنه حق فهو حق، ما دام ذلك الذوق الفطري في إدراكه للشيء لم يتأثر بفلسفة أو لاهوت، وهكذا طفقنا - وفي أنفسنا شعور الهارب من السجن - نؤمن بصدق الذوق الفطري فيما يدركه، فاستبحنا لأنفسنا أن نصف الحشيش بأنه أخضر، وأن نقول عن الشمس والنجوم إنها موجودة، حتى لو لم يكن هناك العقل الذي يعي وجودها، ولكن ذلك لم يمنعنا عندئذ من الاعتراف أيضا بوجود عالم من المثل الأفلاطونية فيه كثرة، وليس يحده زمن، وهكذا تغير العالم أمام أعيننا، فبعد أن كان هزيلا مقيدا بقواعد المنطق، انقلب فجأة ذا خصوبة وتنوع ومتانة، خذ الرياضة - مثلا - فلماذا لا تكون صادقة في ذاتها صدقا كاملا دون أن نلجأ إلى حسبانها مجرد مرحلة فكرية تؤدي إلى ما بعدها، ولا يكمل صدقها إلا بغيرها من المراحل؟ لقد عرضت جانبا من هذا الرأي في كتابي عن «فلسفة ليبنتز»، وهو كتاب جاء وليد المصادفة؛ ذلك أن «ماكتاجارت» الذي كان مفروضا له أن يحاضر عن ليبنتز في كيمبردج عام 1898م، رغب في السفر إلى نيوزيلانده لزيارة أسرته، فطلب مني أن أحل محله في هذه المحاضرات، فكانت بالنسبة إلي مصادفة سعيدة.
وجاء عام 1900م، فكان أهم عام في حياتي الفكرية، وأهم ما حدث لي فيه زيارتي للمؤتمر الدولي للفلسفة في باريس؛ فقد كانت تقلقني الأسس التي تقوم عليها الرياضة منذ اليوم الذي بدأت فيه دراسة إقليدس، وعمري لم يزد على أحد عشر عاما، ولما أخذت بعد ذلك في قراءة الفلسفة، لم أجد ما يرضيني عند «كانت» أو عند التجريبيين، فلم أطمئن لقول «كانت» عن القضية الرياضية إنها قبلية تركيبية، ولا رضيت بما قاله التجريبيون من أن علم الحساب مؤلف من تعميمات جاءتنا بها التجربة، وذهبت إلى ذلك المؤتمر في باريس، فتأثرت بما لمسته خلال المناقشات من دقة عند «بيانو» وتلاميذه، وهي دقة لم أجدها في سواهم، فطلبت منه أن يطلعني على مؤلفاته فاستجاب، ولم أكد أدرس فكرته دراسة شاملة، حتى رأيتها توسع نطاق الدقة التي ألفناها في علوم الرياضة، بحيث تشمل موضوعات أخرى لبثت حتى ذلك الحين نهبا للغموض الفلسفي! فأقمت بنائي على الأساس الذي وضعه «بيانو»، وأضفت من عندي فكرة «العلاقات»، ولحسن حظي وجدت «وايتهد» راضيا عن منهج البحث الجديد، مدركا لأهميته، فلم نلبث إلا قصيرا، حتى بدأنا نتعاون معا على تحليل موضوعات معينة؛ كتعريف التسلسل، والأعداد الأصلية، والأعداد الترتيبية، ورد الحساب إلى أصول في المنطق، وقد أصبنا التوفيق نجاحا سريعا بعد نجاح لمدة عام تقريبا، نعم كان «فريجه» قد أدى بالفعل كثيرا مما عملناه، ولكننا في البداية لم يكن لنا بذلك علم، وقد كان نصيبي الذي أديته في كتاب «أسس الرياضة» (البرنكبيا ماثماتكا) نتيجة عرضت لي بادئ الأمر عرضا، وذلك حين كنت ماضيا في دحض «كانت».
في شهر يونيو من سنة 1901م انتهت هذه الفترة التي امتلأت بنشوة أشبهت النشوة في شهر العسل؛ فقد كان «كانتور» أقام برهانا على أن الأعداد الأصلية لا تنتهي عند عدد يكون بمثابة «العدد الأكبر»، الذي ليس بعده عدد أكبر منه، فطبقت هذا البرهان نفسه على أي مدرك كلي، فانتهيت إلى تناقض قائم في المدرك الكلي، حين لا يكون هو نفسه أحد الأفراد الجزئية المنطوية تحت معناه، وسرعان ما تبين لي أن هذا التناقض إن هو إلا واحد من مجموعة متناقضات ليس لها نهاية ... جاهدت في إزالة هذه المتناقضات، وكنت أظن بادئ ذي بدء أن الأمر لا يستعصي على الحل، لكن سرابا ضللني بعد سراب، فلم أتقدم نحو هدفي خطوة واحدة خلال عامين كاملين (1903-1904م)، حتى إذا ما كان الربيع من سنة 1905م قامت في وجهي مشكلة جديدة ألفيتها ممكنة الحل، فكان حلها بمثابة بصيص من نور، نحو أمل في التغلب على المشكلات الأولى، أما هذه المشكلة الجديدة التي أنارت لي الطريق، فهي مشكلة العبارات الوصفية؛ إذ أوحت إلي الطريقة التي حللتها بها بمنهج جديد.
لقد كنت أول أمري من أتباع المذهب الواقعي، وأنا أستعمل كلمة «الواقعية» هنا بالمعنى الذي قصد إليه المدرسيون في العصور الوسطى بالنسبة إلى المذهب الأفلاطوني؛ إذ «الواقعية» بهذا المعنى تذهب إلى أن الكلمة الكلية لها مسمى قائم بذاته إلى جانب الأفراد الجزئية التي تنطوي تحت ذلك الكلي، أقول إني كنت أول أمري واقعيا بهذا المعنى، فظننت - مثلا - أن الأعداد الأصلية (1، 2، 3 ... إلخ) أشياء موجودة وجودا قائما بذاته، وكل الفرق بين وجودها ووجود سائر الأشياء التي نصادفها هو أن الأعداد وجودها غير مشروط بزمن، فلا يكون لها ماض وحاضر ومستقبل، بل هي ثابتة الحقائق لا يتعاورها تغير الزمن، فلما هدانا التحليل إلى رد الأعداد إلى فئات من فئات، لم تعد كائنات موجودة وجودا مستقلا كما حسبتها أول الأمر، بل أصبح الموجود هو فئات من أشياء، أي إن الموجود فعلا هو المعدود لا العدد نفسه، وبينما كنت في شغل من تحليل الأعداد، كان الفيلسوف النمساوي «مينونج» - الذي تابعت إنتاجه باهتمام - يطبق براهين المذهب الواقعي (وكلمة الواقعية هنا أيضا مستخدمة بمعناها الأفلاطوني الذي شاع بين مدرسيي العصور الوسطى) على كل عبارة وصفية، بحيث انتهى إلى القول بأن أي عبارة فيها وصف لشيء، فلا بد أن نفترض لذلك الشيء وجودا مهما يكن نوع ذلك الوجود؛ لأنه لو لم يكن موضوع الحديث موجودا لما أمكن التحدث عنه حديثا مفهوما، خذ مثلا عبارة مثل «جبل الذهب غير موجود»، فهذه لا شك قضية صحيحة، وأساس صدقها هو أنه لا وجود لجبل من ذهب، لكن النقطة الهامة هنا هي: كيف استطعنا أن نصف هذه العبارة بالصدق ما لم يكن موضوعها دالا على شيء؟ إنه إذا لم يكن ذا دلالة لأصبحت عبارتنا غير ذات معنى، ولاستحال بالتالي أن نحكم عليها بالصدق، من ذلك يستنتج «مينونج» أن «جبل الذهب» موجود، وإن لم يكن وجوده واقعا في عالم الأشياء المحسوسة، وجوده ضمني، لكنه على كل حال وجود حقيقي، وهكذا قل في سائر العبارات التي تتحدث عن موضوعات خيالية، فلم يقنعني هذا القول من «مينونج»، واشتدت بي الرغبة في التخلص من هذا العالم الوهمي الذي خلقه «مينونج»، وملأه بصنوف الموجودات، فلما تناولت الأمر بالبحث انتهيت إلى نظريتي في العبارات الوصفية، والمهم فيها هو أنها كشفت عن حقيقة، وهي أننا إذا ما حللنا جملة ذات معنى، فلا يجوز لنا الافتراض بأنه ما دامت الجملة في مجملها ذات معنى، فلا بد كذلك أن يكون لكل جزء من أجزائها معناه القائم بذاته؛ فلفظتا «جبل الذهب» يمكن أن تكون جزءا من عبارة ذات معنى مفهوم، لكن اللفظتين وحدهما مستقلتين عن عبارتهما لا يتحتم أن تكونا دالتين على شيء، وما لبثت بعد ذلك أن تبينت أن الأسماء الكلية كلها، أعني الرموز الدالة على فئات، إن هي إلا عبارات وصفية، وحكمها حكم تلك العبارات، في أن الكلمة منها تكون ذات معنى، وهي جزء من جملة، لكنها لا تدل بذاتها على شيء إذا استقلت عن جملتها، وقامت بذاتها.
وأدت بي نظريتي في العبارة الوصفية إلى تناول مشكلة المدلول والمعنى - وهنا أريد أن تنصرف كلمة «المدلول» للألفاظ المفردة، وكلمة «المعنى» للعبارات - وإنها لمشكلة معقدة، فتناولتها بالبحث في كتابي «بحث في المدلول والصدق» (1940م)، وكان لا بد أن يسوقني البحث إلى علم النفس، بل إلى علم وظائف الأعضاء؛ فإنني كلما ازددت تفكيرا فيها قل اعتقادي بأن المنطق مستقل بذاته تمام الاستقلال، ولما كان المنطق - في رأيي - علما أبعد تقدما وأكثر دقة من علم النفس، كان خيرا لنا بالبداهة أن نلجأ إلى المنطق في حل مشكلاتنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وما أمكن بحثه بطرائق المنطق لا ينبغي أن نلجأ فيه إلى علم النفس مثلا ... ها هنا أدركت أن «نصل أوكام» وسيلة منهجية مفيدة.
كان «نصل أوكام» في صورته الأولى ميتافيزيقيا؛ إذ كان مبدأ يراد به الاقتصاد في عدد الكائنات، بمعنى أن كل كائن يمكن الاستغناء عن افتراض وجوده، فلا بد من بتره كأنما نبتر الزائدة بنصل، كنت أنظر إلى «نصل أوكام» - وما زلت - أنظر إليه هذه النظرة أثناء اشتغالي بكتاب «أسس الرياضة» (البرنكبيا ماثماتكا)؛ فعند أفلاطون أن الأعداد الأصلية (1، 2، 3، 4، ...) كائنات قائمة بذواتها، غير أنها كائنات لازمنية، وهي هكذا في كتاب «فريجه»؛ «أصول الحساب»، فلما انتهى بي تحليل العدد إلى اعتباره فئة من فئات، ثم لما تبينت أن الرموز الدالة على فئات إنما هي «رموز ناقصة» - أي إنها ليست بذات معنى في ذاتها، ولا يكون لها مدلولها إلا إذا جاءت جزءا من عبارة - آمنت بأنه ليس ثمة ضرورة عقلية تحتم علينا أن نجعل الأعداد الأصلية كائنات مستقلة بذواتها، ولم يكن برهاني قائما على شيء من الميتافيزيقا، بل جعلت أساس البحث شيئا آخر، هو ما أسميه «بالألفاظ الأولية»، أعني الحد الأدنى من الكلمات التي يمكن جعلها أساسا لكل علم من العلوم، وهي الكلمات التي لا تغني فيها واحدة عن أخرى، ولا يمكن تعريف واحدة بواسطة أخرى، أضرب لذلك مثلا ما صنعه «بيانو» حين أرجع لغة علم الحساب كلها إلى ألفاظ أولية ثلاثة، فجاء بعده «فريجه» كما جاء كذلك كتابنا في أسس الرياضة (برنكبيا ماثماتكا)، وأوضحنا كيف أنه حتى هذه الألفاظ الثلاثة لا ضرورة لافتراضها أساسا نقيم عليه بناء العلوم الرياضية، إذ يمكن ردها وتحليلها إلى الألفاظ الأولية اللازمة لبناء علم المنطق، وبهذا تصبح الرياضة استمرارا للمنطق، ويكون كلاهما قائما على مجموعة واحدة معينة من الألفاظ الأولية، هي التي لا بد منها للسير في قضايا المنطق أولا، فقضايا الرياضة بعد ذلك، وهكذا ترى استغناءنا عن افتراض وجود الأعداد ككائنات قائمة بذواتها، وردها إلى ألفاظ أولية مستخدمة في علم المنطق، ترى كل ذلك قائما على تحليل منطقي لا شأن له بالميتافيزيقا ومجالها. •••
إنك لو استثنيت ما كتبته في المنطق الرياضي، جاز لك القول بصفة عامة بأن سائر كتبي لا تمثل وجهة نظري تمثيلا كاملا؛ فنظرية المعرفة - مثلا - التي عنيت بها عناية كبرى، فيها ما يدل على أساس ذاتي بدرجة لم يكن منها بد؛ لأن السؤال الذي طرحته لأجيب عنه هو: «كيف عرفت أنا ما أعرفه؟» وإذن فنظرية المعرفة لا مفر لها من أن تجعل نقطة ابتدائها هي الخبرة الذاتية، خبرتي أنا، ماذا أدرك من خبراتي الباطنية الذاتية، بل إن هذا الجانب الذاتي من نظرية المعرفة لا يقتصر على نقطة البداية وحدها، بل يجاوزها فيشمل الخطوات الأولى من طريق البحث في الموضوع؛ لأن تلك الخطوات الأولى هي أيضا منحصرة في الذات العارفة، ولما كنت فيما أخرجته من مؤلفات لم أجاوز حتى الآن ببحثي تلك المراحل الأولى من عملية المعرفة، فقد بدوت أمام القراء أكثر ذاتية من حقيقة موقفي، فلست أنا بالفيلسوف المثالي الذي يجعل الحقيقة محصورة كلها في الذات العارفة، ولا أنا بواحد ممن يذهبون مذهب انحصار الذات في نفسها، بحيث لا يكون أمام الإنسان سبيل إلى الخروج عن ذاته إلى حيث العالم الخارجي، بل إني مؤمن بعالم الفيزيقا إيماني بعالم النفس، ومن الأمور التي أراها واضحة بذاتها أن معرفتي تبدأ بخبرتي، والخبرة حالة ذاتية باطنية، وكل ما ليس في حدود خبرتي المباشرة لا سبيل إلى العلم به إلا عن طريق الاستدلال، ويظهر لي أن الفلاسفة - خشية منهم أن يقعوا في مأزق انحصار الذات في نفسها - لم يواجهوا مشكلة المعرفة الإنسانية مواجهة جادة، فتراهم إما تركوا المبادئ الضرورية لعملية الاستدلال، غامضة بحاجة إلى توضيح، أو أنكروا الفارق الذي يميز المعرفة المستمدة من الخبرة المباشرة من المعرفة المستمدة بالاستدلال، فإذا ما أتيح لي الفراغ الذي يمكنني من الاضطلاع ببحث جاد في مشكلة فلسفية، فسيكون موضوعي هو هذه المحاولة في سبيل تحليل العملية الاستدلالية التي تبدأ من طرف الخبرة الذاتية، وتخرج منها إلى عالم الفيزيقا، مفترضا الصدق في تلك الاستدلالات، ثم أبحث عن المبادئ التي بمقتضاها تكون استدلالاتنا من خبراتنا الذاتية إلى الطبيعة الخارجية صادقة، قد يكون الحكم بصدق المبادئ المتضمنة في عملية الاستدلال أمرا مرهونا بالهوى، لكن الذي لا شأن له بأهوائنا، والذي لا بد لنا من قبوله، هو ضرورة الأخذ بهذه المبادئ الاستدلالية إذا أردنا ألا ينحصر وجودنا في حدود ذواتنا وخبراتها المباشرة.
وأنتقل الآن إلى ذكر ما حاولت أداءه في المشكلات الاجتماعية، فلقد نشأت في محيط سياسي، وكان كبار أسرتي يريدون لي أن أسير في حياتي سيرة سياسية، غير أن الفلسفة استثارت من اهتمامي أكثر مما فعلت السياسة، ولما تبين لي في وضوح أن في نفسي استعدادا لها، قررت أن أجعلها مشغلتي الرئيسية في الحياة، وقد آلم جدي هذا الاتجاه مني، حتى لقد أشار وهو يحدثني ذات يوم إلى بحثي في أسس الهندسة بقوله في استخفاف: «هذه الحياة التي عشتها حتى الآن!» كأنما يريد أن يقول لي: هذه الحياة التي أضعتها سدى، ثم أضاف إلى ذلك قائلا في صوت المتحسر: «أوه يا «برتي»، أصحيح ما سمعته أنك تكتب كتابا آخر؟!» ومهما يكن من أمر انصرافي إلى الفلسفة ، فقد لبث في نفسي أثر قوي يميل إلى السياسة أيضا، فلما كنت في برلين عام 1895م درست الديمقراطية الاشتراكية الألمانية التي أحببتها لمناهضتها للقيصر، لكني كذلك كرهتها؛ لأنها - عندئذ - كانت تمثل الماركسية على أصولها، وظللت حينا متأثرا ب «سدني وب» في ميلي إلى النزعة الاستعمارية إلى الحد الذي جعلني أناصر حرب البوير، لكنني أقلعت عن هذه الاتجاه إقلاعا تاما سنة 1901م، ومنذ ذلك التاريخ لم أفتأ أحس كراهية شديدة نحو استخدام القوة في العلاقات البشرية، ولو أني كنت أسلم دائما بضرورة استخدام القوة أحيانا، وجدت في سنة 1903م أن انقلب «جوزف تشمبرلين» عدوا لحرية التجارة، فانطلقت أهاجمه بالكتابة والخطابة، واستندت في معارضتي إياه إلى ما يستند إليه كل داعية إلى التعاون الدولي، وكان لي نصيب فعال في الحركة التي أرادت للمرأة حق الانتخاب، ولما فرغت من كتابي «أسس الرياضة» سنة 1910م، رغبت في دخول البرلمان، وكنت وشيك تحقيق هذه الرغبة، لولا أن علمت لجنة الترشيح عني حرية التفكير فأعرضت.
Página desconocida