62
وهذه النسبية في الزمن لها مقابلها في المكان أيضا، فما المكان؟ هل مدينة لندن مكان؟ إذا قلت نعم فتذكر أن الأرض تدور حول نفسها، وأن مدينة لندن تواجه الشمس آنا وتبعد عنها آنا، أي إنها تدور مع دوران الأرض ، ولا يكون لها مكان واحد مستقر ثابت، فهل الأرض مكان؟ لكن الأرض تدور حول الشمس، فهي آنا هنا وآنا هناك، وإذن فهي الأخرى لا تستقر في مكان واحد ثابت، فهل الشمس مكان؟ لكنها تتحرك بالنسبة للنجوم، وإذن فكل ما نستطيعه إذا أردنا أن نتحدث عن مكان ما هو أن نقرنه بزمن معين، فنقول - مثلا - «مدينة لندن في اللحظة الفلانية»، وبهذا تحدد مكانها في العالم.
هكذا أصبح المكان - كما أصبح الزمان - نسبيا، ولم يعد في الإمكان أن نتحدث عن الكون كله على أنه بأسره في لحظة زمنية واحدة معينة، ومما أدت إليه نسبية المكان والزمان أن وجبت مراجعة قانون الجاذبية كما وضعه نيوتن؛ لأن ذلك القانون كان يستند - فيما يستند إليه - إلى كون المكانين اللذين بينهما مسافة يشتركان في لحظة زمنية بعينها، بحيث تستطيع حساب الجاذبية لجسم في المكان الأول إذا ما سقط إلى المكان الثاني، وكذلك تجب مراجعة الهندسة لتوضع على أساس جديد؛ إذ كانت هندسة إقليدس تفرض ثبات المكان وشموله للكون كله، فالخط المستقيم - مثلا - كان المفروض فيه أنه مسار معين يمتد في مكان ثابت، أجزاؤه كلها - أي نقطه - موجودة معا في آن واحد، أما الآن فقد بات ما يبدو خطا مستقيما عند مشاهد لا يكون كذلك بالنسبة لمشاهد آخر في مكان آخر.
لا بد إذن من البدء في فهم العالم الطبيعي فهما جديدا، وأول طريق تسلكه لهذا الفهم الجديد هو أن تزيل عن عالم الطبيعة صلابته وتماسكه، وأن تترجمه إلى لغة أخرى غير لغة «الأشياء» التي كنا نستخدمها من قبل، فتترجمه إلى «حوادث»، بحيث تتحدث عن الشيء المعين على أنه سلسلة متتابعة من حوادث بدل أن تتحدث عنه على أنه «جسم» له حدود متعينة وثبات ودوام، فما الجسم من الأجسام المادية إلا خط طويل من حوادث، هو تاريخ يمتد مع الزمن، ولا يمكن فهم وجوده إلا على هذا الامتداد الزمني المتغير لحظة بعد لحظة؛ هذه المنضدة التي أمامي، أو هذا القلم الذي أمسك به، هو في حقيقته كالنغم الذي يتطلب وقتا للفراغ من عزفه، بحيث لا يوجد كله في لحظة واحدة، فإذا سألت أين النغم ومتى؟ لم يكن الجواب بتحديد نقطة مكانية واحدة، ولا لحظة زمانية واحدة، بل كان الجواب الصحيح هو أنه سلسلة من حوادث تعاقبت في فترة زمنية، وهكذا تكون الحال بالنسبة إلى المنضدة وإلى القلم وغيرهما من سائر الأشياء، فإن كنت أرى المنضدة الآن مستقرة في مكان محدد، فالذي أراه هو الحالة الراهنة من سلسلة حالاتها التي تمتد من أول تاريخها، وستمتد إلى آخر ذلك التاريخ، فالموجود الآن من المنضدة هو «حادثة» من مجموعة الحوادث التي منها يتألف تاريخها، والذي يخلع على المنضدة وحدتها الشيئية هو ارتباط تلك الحوادث في تاريخ واحد، كما أن الذي يخلع على النغمة وحدتها هو ارتباط أجزائها في سلسلة واحدة من الحوادث.
63
عالم الطبيعة هو مجموعة كبرى من الحوادث، غير أن هذه الحوادث يرتبط بعضها ببعض بأنواع من العلاقات ارتباطا يوحي إلينا بفكرتي الزمان والمكان، تتعاقب الحوادث في نقطة مكانية فنقول: «ماض وحاضر ومستقبل.» وتتجاور الحوادث بحيث تكون واحدة على يمين الأخرى أو يسارها أو فوقها أو تحتها، فنقول: «هذا المكان أو ذاك.»
ويكون بين الحادثتين المتجاورتين (والتجاور يكون في الزمان كما يكون في المكان) مسافة يمكن قياسها، وهذه المسافة التي تفصل الحادثتين قد تكون مسافة من مكان، وقد تكون فترة من زمن، وإنما تكون المسافة زمنية حين يكون الجسم الواحد بعينه موجودا في الحادثتين معا، أعني حين تكون الحادثتان جزءين من تاريخ ذلك الجسم، وتكون المسافة مكانية حين تكون الحادثتان في جسمين، أعني أن تكون إحداهما جزءا من تاريخ شيء ما، وتكون الأخرى جزءا من تاريخ آخر لشيء آخر.
ولكي تحدد لحادثة من حوادث العالم وضعها مكانا وزمانا، يلزمنا أربعة أرقام؛ أحدهما يدل على اللحظة الزمنية والثلاثة الأخرى تدل على أبعاد المكان الثلاثة، فافرض مثلا أن حدثت حادثة لطائرة، فلا يتحدد وضع هذه الحادثة إلا بأربعة أرقام هي خط الطول وخط العرض والارتفاع عن سطح البحر، ثم الوقت بحساب جرينتش.
إنه لا مندوحة لنا - إذا ما أردنا أن نفهم عالم الطبيعة فهما صحيحا على أساس العالم الحديث - من تدريب خيالنا تدريبا جديدا، بحيث يتصور الأشياء كما يريد له العلم الحديث أن يتصورها، وإنما نحتاج إلى هذا التدريب؛ لأن التصور الجديد لا يجري مع الإدراك الفطري في طريق واحد؛ فالإدراك الفطري ينظر إلى المنضدة على أنها «شيء» صلب متماسك متعين الحدود، وأما العلم الحديث فيريد لنا أن نتصور المنضدة إشعاعات تتابع حوادثها في خيط طويل يمتد مع الزمن كما هي الحال في النغمة الموسيقية سواء بسواء، إننا حين نتحدث عن «الذرة» ترانا أميل إلى تصورها شيئا ثابتا ككرة صغيرة لها حدودها وأوضاعها الثابتة، مع أنها شحنة كهربائية لا تفتأ إلكتروناتها تغير من مواضعها كأنها خلية من النحل لا تستقر نحلة فيها على حالة واحدة في مكان واحد، إن قولنا عن ذرة بأنها موجودة هو بالضبط كقولنا إن نغمة موسيقية موجودة، فإن كانت النغمة تتطلب خمس دقائق لعزفها، فنحن لا نقول عنها إنها شيء معين، فرد موجود كله طول الدقائق الخمس، بل نتصورها سلسلة نبرات متصل بعضها ببعض في تعاقب، بحيث يتكون من خيطها نغمة واحدة، وهكذا الذرة سلسلة من حادثات متعاقبة يتكون من خيطها حقيقة واحدة، ولئن كانت الرابطة في نبرات النغم هي الوحدة الجمالية، فإن الرابطة في حوادث الذرة هي الوحدة السببية.
وها هنا نقع على كلمة خطيرة، هي كلمة «السببية»؛ إذ يستحيل أن نفهم الطبيعة فهما صوابا إلا إذا غيرنا وجهة نظرنا إلى هذه العلاقة السببية التي تصل الحوادث بعضها ببعض، والنقطة الجوهرية في هذا التغير هي أن نستل من «السببية» ما كنا نفرضه فيها من «قوة» أو «إلزام» يربط السبب بالمسبب، فقد كنا إذا ما قرعت كرة كرة أخرى فحركتها، نتصور أن الكرة الأولى قد «ألزمت» الكرة الثانية بالحركة، وأنها استخدمت «قوة» في تحريكها، كذلك كنا إذا ما سقط حجر من أعلى إلى أسفل نتصور أن «قوة» الجاذبية قد أرغمت الحجر إرغاما على السقوط، هكذا كنا نتصور السببية «قوة» تنتقل باللمس المباشر من السبب إلى نتيجته، أو تنتقل على بعد كما هي الحال في الجاذبية.
Página desconocida