Bertrand Russell: Una Introducción Muy Corta
برتراند راسل: مقدمة قصيرة جدا
Géneros
ثانيا: ينتقد راسل علاقة المضمون والشيء. كان مينونج يرى هو وآخرون أن العلاقة هي علاقة إحالة مباشرة، ولكنها في رأي راسل مركبة وثانوية بقدر أكبر، وتتألف في معظمها من معتقدات عن مجموعة متنوعة من الروابط غير المباشرة بعض الشيء فيما بين المضامين، وبين المضامين والأشياء، وفيما بين الأشياء. أضف إلى ذلك حقيقة أنه - في الخيال والخبرات غير العادية مثل الهذيان - قد تخطر لنا الأفكار دون أشياء ترتبط بها، ونرى أن علاقة المضمون-الشيء تتضمن الكثير من الصعوبات، يقول راسل إن أهمها يكمن في تعضيد الخلاف بين أتباع المذهب المثالي الذين يرون أن المضمون أهم من الأشياء، وأتباع مذهب الواقعية الذين يرون أن الأشياء أهم من المضمون. (استخدام راسل لهذه التسميات، مع أنها معممة، هو استخدام مضلل؛ إذ ينبغي علينا التماسا للدقة أن نستبدل التسمية «التابع للمذهب المثالي» ونستخدم بدلا منها «المناهض لمذهب الواقعية» هنا؛ ويعود ذلك لأنه مع أن مذهب الواقعية ومناهضة مذهب الواقعية هما أساسا أطروحتان مختلفتان حقا فيما يتعلق بعلاقة المضامين بالأشياء - ومن ثم فهما أطروحتان «معرفيتان» - فإن مذهب المثالية أطروحة «ميتافزيقية» عن طبيعة العالم؛ أي إنه أساسا يتسم بطابع عقلي. وكثيرا ما تخلو المناقشات الفلسفية من هذه النقطة؛ لذلك فلم يكن راسل هو وحده الذي جانبه الصواب في ذلك الرأي.) ويدعي راسل أن كل هذه الصعوبات يمكن تجنبها إذا اتبعنا رؤية ويليام جيمس لنظرية «الأحادية المحايدة».
الأحادية المحايدة
كان جيمس يؤكد أن النوع المنفرد من المادة الخام الأولية من الناحية الميتافيزيقية مرتب في أنماط مختلفة بناء على علاقاتها البينية، ونطلق على بعضها مواد عقلية وعلى بعضها الآخر مواد مادية. وقال جيمس إن رأيه كان مبعثه عدم رضاه عن النظريات المتعلقة بالوعي، الذي هو محض وريث مبهم للحديث العتيق عن «الأرواح». كان يقر بأن الأفكار موجودة؛ أما ما كان يرفضه فهو أنها عبارة عن كيانات؛ إذ كان يرى أنها - بدلا من ذلك - وظائف؛ فلا توجد «أي مادة أو خاصية كينونة أصلية - تتعارض مع المادة التي تتألف منها الأشياء المادية - تتألف منها أفكارنا عن هذه الأشياء؛ ولكن يوجد وظيفة في الخبرة تؤديها الأفكار، وتستخدم خاصية الكينونة هذه من أجل أدائها. وتلك الوظيفة هي «المعرفة».» (جيمس، مقالات عن المذهب التجريبي الراديكالي، ص3، 4).
ففي رأي جيمس، النوع الوحيد من «المادة الأولية» - كما سماها - هو «الخبرة البحتة». فالمعرفة هي علاقة يمكن أن تدخل فيها أجزاء مختلفة من المادة الأولية؛ والعلاقة نفسها هي جزء من التجربة البحتة، كما أن أطرافها جزء من التجربة البحتة.
لم يستطع راسل أن يتقبل كل هذا الرأي؛ فقد كان يرى أن استخدام جيمس لعبارة «التجربة البحتة» تعبر عن تأثر دائم بمذهب المثالية، ورفضه؛ إذ كان يفضل استخدام الآخرين لمصطلح «المادة المحايدة»، وهي خطوة مهمة تتعلق بالتسمية لأنه أيا كانت المادة الأولية، فلا بد أن تكون قادرة على أن تؤدي - في حالة ترتيبها ترتيبا مختلفا - إلى ما لا يمكن أن يطلق عليه على نحو ملائم «خبرة»، كأن تؤدي على سبيل المثال إلى منشأ النجوم والأحجار. ولكن راسل لم يوافق إلا موافقة جزئية على هذا الرأي المعدل. وقال إنه من الصحيح رفض فكرة الوعي باعتباره كيانا، وإنه من الصحيح جزئيا وليس كليا اعتبار العقل والمادة معا مؤلفين من مادة محايدة. أما في حالة انعزالهما فلا يتألف أي منهما من مادة محايدة؛ لا سيما بخصوص الأحاسيس، وهي نقطة مهمة عند راسل، بالنظر إلى هدفه الأساسي المتعلق بالجمع بين الفيزياء والإدراك. ولكنه أصر بدلا من ذلك على أن بعض الأشياء تنتمي فقط إلى العالم العقلي (الصور والمشاعر) وأن أشياء أخرى تنتمي فقط إلى العالم المادي (كل ما لا يمكن وصفه باعتباره خبرة). وما يفرق بينهما هو نوع السببية التي تحكمهما؛ ويوجد نوعان مختلفان من القوانين السببية؛ أحدهما ينطبق فقط على الظواهر النفسية، والآخر ينطبق فقط على الظواهر المادية. يأتي قانون تداعي المعاني الذي وضعه هيوم كمثال للنوع الأول، ويأتي قانون الجاذبية كمثال للنوع الثاني. والإحساس يطيع النوعين؛ ومن ثم فهو محايد فعلا.
تسبب الإقرار بهذه الرؤية من الأحادية المحايدة في إلزام راسل برفض بعض آرائه الأولى. وكان من التغيرات المهمة أنه تخلى عن مفهوم «البيانات الحسية»؛ وذلك لأن البيانات الحسية هي أشياء ناتجة عن أفعال عقلية، وهي التي أصبح يرفض وجودها الآن؛ ولذلك، ما دام لا يوجد احتمال لوجود علاقة بين الأفعال غير الموجودة والأشياء المفترضة الناتجة عن تلك الأفعال، فلا وجود لتلك الأشياء أيضا. وما دام لا يوجد فارق بين الإحساس والمعلومة الحسية - بمعنى أنه ما دمنا الآن نفهم أن الإحساس الذي نشعر به عند رؤية بقعة لون مثلا هو «فقط» بقعة اللون نفسها - فنحن نحتاج إلى مصطلح واحد فقط هنا، ويطلق عليه راسل اسم «المدرك الحسي».
قبل أن يعتنق راسل الأحادية المحايدة كان قد اعترض عليها لعدة أسباب، ومنها أنها كانت تعجز عن تفسير التصديق. وكما سبق، حتى حين أقر بالنظرية، كانت لديه تحفظات عليها؛ فالعقل والمادة يتداخلان على أساس سمات مشتركة، ولكن لكل منهما جوانب يتعذر رفضها. ومع ذلك كان ما أقنعه أخيرا هو حقيقة - أو هكذا كان يبدو له - أن علم النفس والفيزياء قد اقتربا اقترابا شديدا؛ فقد أسهمت الفيزياء الحديثة المتعلقة بالذرة والزمكان القائم على نظرية النسبية في استبعاد الطابع المادي عن المادة فعليا، وأسهم علم النفس - لا سيما في شكل المدرسة السلوكية - في إضفاء طابع مادي على العقل. ومن وجهة النظر الداخلية للاستبطان، يتألف الواقع العقلي من أحاسيس وصور. ومن وجهة النظر الخارجية للملاحظة، تتألف الأشياء المادية من أحاسيس وأشياء محسوسة؛ ومن ثم يصبح من الممكن ظهور نظرية موحدة بعض الشيء عن طريق تناول الاختلاف الأساسي باعتباره اختلافا من حيث التنظيم؛ فالعقل هو بنية مؤلفة من مواد منظمة بطريقة معينة ، والدماغ بنية مؤلفة من المواد نفسها تقريبا لكنها منظمة بطريقة أخرى.
ومن المدهش أن إحدى السمات اللافتة لوجهة النظر هذه هي مدى اتساقها مع مذهب المثالية. كما ورد آنفا، اتهم راسل جيمس بالتعلق بأسمال مذهب المثالية. ولكنه هنا يعكف على التأكيد على شيء يكاد يكون غير قابل للتفرقة؛ وهو أن العقول مؤلفة من مدركات محسوسة - أي الأحاسيس والصور - وأن المادة وهم منطقي مؤلف من انطباعات مدركة غير محسوسة. وفي هذه المرحلة كان راسل قد أصر (باستخدام مصطلحاته الأولى) كثيرا على أن البيانات الحسية والأشياء المحسوسة هي كيانات «مادية»، تقريبا بالمعنى الذي وفقه من الممكن أن تكون تلك المعلومة حاضرة كنبضات في عصب ما أو نشاط في دماغ، وذلك إذا كنا نتحدث عن معلومة من البيانات الحسية في جهاز عصبي. ولكن الأعصاب والأدمغة - باعتبارها أشياء قائمة على النظرية المادية - يجب أن تفهم في حد ذاتها على أنها أبنية مؤلفة من الأحاسيس والأشياء المحسوسة - وليس من «المواد المادية» حسب الفهم التقليدي - وهو مفهوم أثبتت الفيزياء أنه يتعذر الدفاع عنه. وفي نهاية كتاب «تحليل العقل» يقول راسل وفقا لذلك إن «أي وصف علمي نهائي لما يجري في العالم - إذا كان من الممكن التحقق منه - من الممكن أن يشبه علم النفس أكثر مما يشبه الفيزياء ... (لأن) علم النفس أقرب لكل ما هو موجود» (تحليل العقل، ص305، 308). ويفسر ذلك الادعاء المعروف الذي ينسب إلى راسل بأن «الأدمغة تتألف من أفكار» وأنه حين يتأمل عالم الفسيولوجيا دماغ شخص آخر، فإن ما «يراه» هو جزء من دماغه هو (شيلب، فلسفة برتراند راسل، ص705).
يصعب على أنصار الرؤى الأكثر تشددا للمذهب المادي تقبل هذا الجانب من رأي راسل. بيد أن هذه ليست الصعوبة الوحيدة التي تتسم بها رؤيته للأحادية المحايدة؛ فمن أهم الصعوبات الأخرى أنه فشل في هدفه الأساسي، وهو دحض وجهة النظر القائلة بأن الوعي ضروري للتفرقة بين الظواهر العقلية والمادية. لم يحاول راسل بالطبع تحليل الوعي بهدف التخلص منه، بل كان هدفه بالأحرى هو تقليص أهميته لمسألة العقل والمادة. ولكن الصور والمشاعر والأحاسيس - التي تؤدي دورا مهما في نظريته - تظل بكل صلابة ظواهر «واعية»، أما الأشياء المحسوسة (وهي غالبا ما تكون غير محسوسة) - وتكون القسم الأكبر من المادة - فليست واعية. تقبل راسل هذا الجانب، ولكنه حاول تحديد معيار للاختلاف لا يستغل هذه الوقائع، وهو معيار العضوية في مناطق سببية مختلفة. ولكن رغم أن ذلك الاختلاف مشكوك في أمره - وحتى إذا كان موجودا فربما يكون مستعصيا في الغالب على الملاحظة - فإن الاختلاف القائم على أساس الوعي واضح للغاية.
وفي سياق متصل، لا يمكن استبعاد القصدية التي يتسم بها الوعي من حسابات المعرفة؛ إذ يتعذر تفسير التذكر والإدراك من دونها. وأقر راسل لاحقا بهذه النقطة، وذكرها في كتاب «تطوري الفلسفي» باعتبارها مبررا لعودته إلى موضوع الإدراك والمعرفة في كتاباته اللاحقة.
Página desconocida