فقالت بلا تلعثم: جنيهان! .. والآن من فضلك.
ودستهما في حقيبتها، وهما يغادران القهوة. وأثنت على الشقة الصغيرة المهندمة؛ فأثنى بدوره على البواب صاحب الفضل. وجاء بطبق فاكهة، ووضعه على خوان على كثب من الفراش. وسرعان ما تعانقا دون ما كلمة واحدة. وامتلأ الصمت بتعابير غامضة، وهمسات من عالم آخر. واستحكم ظلام المغيب في جو الحجرة المغلق. وارتجت مصاريع النوافذ بريح مباغتة، كما يقع كثيرا في الخريف. وما لبث لحن المطر أن عزف فوق الجدران. ورفع إلى النافذة القريبة نظرة محمومة، ثم همس مستسلما: جو متقلب لا أمان له.
ولكنه استمتع بدفء وراحة عميقة. وانتبه إلى الظلمة الشديدة، فمد يده إلى الأباجورة فأضاء مصباحها. ولحن المطر ما زال يعزف، ولكنه خف جدا موحيا بالختام. ونظر إليها فرآها مغمضة العينين كالنائمة. وهاله منظر جفنها الكبير كورقة وردة. ولاحت منه نظرة إلى المرآة البيضاوية، فرأى صورة لشخصه تستحق الرثاء. وكف المطر عن العزف تماما. وسألها: نائمة؟
فأجابت دون أن تفتح عينيها: لا أنام قبل الفجر.
وقشر موزة ورشقها برفق بين شفتيها الغليظتين؛ فجلست نصف جلسة وتسليا معا بالفاكهة. وقالت: قال الخواجا إنك مسافر بعد غد .. ولكن ما اسمك؟
وتذكر وهو يداري ابتسامة أنهما بدءا بالعناق قبل التعارف. قال إن اسمه بركات، موظف منقول إلى أسيوط، فقالت وهي تمسح ظاهر يدها بباطن قشرة الموز: اسمي دنيا.
فقال لنفسه: اسم غريب وجميل، ولكنه بلا شك زائف ككل شيء في الجلسة، وشعر بالملل يسترده من الحلم حتى حسد المنهمكين في القهوة. وقصت عن الماضي والمصير قصة فقال لنفسه: قصة واحدة .. لا جديد ألبتة! وسألته عن شقته وأثاثها فأجاب: بعتها بكل ما فيها .. وبعد غد سيحل بها آخر.
لم يعد بالحجرة إلا عبير الموز والفتور. ولولا الجنيهان لتقوض المجلس. وفي ذروة من ضيقه رآها وهي تمد ذراعها إلى حقيبتها فوق الكنبة، ثم رآها وهي تستخرج منها الجنيهين. لحظها بطرف متسائل، فإذا بها تميل نحو الناحية الأخرى من الفراش؛ لتودع الورقتين في درج التواليت. ونظرت إليه وهي تبتسم، فتلقى نظرتها بعين لم تفهم شيئا، وسألها: لمه؟
فقالت وهي تسبل جفنيها: نقودك ردت إليك.
استيقظ من الفتور، ولكنه لم يفهم شيئا، فقالت بدلال: أنت فاهم ولكنك تتغابى، هذا كل ما في الأمر.
Página desconocida