ولكن فلنعد نحن إلى موقف الدكتور عويس في 999 وقفته بالضبط جاءت بجوار العمود الفاصل بين الدرجة الأولى والثانية، وكان كعادته قد قرر أن يهرب بأفكاره من مضايقات البيئة الموقوتة إلى خططه ومشاريعه لتفويت اللائحة، إلى أن حدث وأجبرته هزة قيام الأوتوبيس أو وقوفه لإدراك أن من يقف أمامه سيدة، و«يقف» أيضا ليست الكلمة الدقيقة لوصف ما اكتشفه، فقد اكتشف أن جسديهما في حالة تقارب لا تسمح به الحرمة البشرية، فلكل جسد بشري في رأيه حرمة، وحد أدنى من المسافة الواجب توافرها لكي تحفظ له كيانه كوحدة إنسانية مستقلة، ولم تكن هذه أول مرة في ركوبه للأوتوبيس يحدث شيء من هذا وكانت طريقته لحل هذا الاعتداء على حرمة جسده واعتداء جسده على حرمة غيره أن يتحرك حتى يولي السيدة ظهره.
ولقد حاول هذه المرة فوجد أن تحريك رقبته نفسها أو إدارة وجهه فقط عملية تبدو مستحيلة، ولم يكن ثمة بد مما ليس منه بد، وأستطيع أن أتصور الكفاح الرهيب النفسي والعصبي والجسماني الذي بذله الدكتور عويس ليستعمل حقيبته التي تعادل قدس الأقداس في نظره، وليهبط بها من مكان الراية السوداء التي يرفعها كالفريق، ليفرضها بالقوة القاهرة حائلا بين جسده وجسد السيدة، التي لا بد وأنها شكت في نواياه وتحركاته أول الأمر ولكنها حين أدركت في النهاية هدفه بدأت تبذل المستحيل لمساعدته، مشكورة لا شك، فجسدها كان سمينا كثير الانبعاجات صعب الحركة وحين - بعد جهد جهيد - تمت العملية بنجاح، وأصبحت كل وثائق اللائحة وأسرارها مضغوطة بشدة وقائمة ليس بمعناها كلائحة لتنظيم السلوك، وإنما بمادتها كورق ودوسيهات، قائمة لتصنع سورا يحافظ أولا على الحد الأدنى لحرمة جسده، بصعوبة لفت السيدة رقبتها الممتلئة، وبالكاد لف هو إحدى عينيه، ومن خلال التقاء البصرين قالت له كلمة امتنان صامت أرضت كبرياءه التي نادرا ما ترضى. ومن خلالها أيضا أدرك أنه كان على صواب، فالسيدة بدت وقورة من النوع الذي لا يعجبه سواه، وجهها أبدا لم يتعود الابتسام وإنما يطفح بشيء آخر كالإيمان، حدث نفسه بأنها ربما متدينة، ربما زوجة محترمة لرجل دين، ربما هي من عائلة أجادت تربيتها حتى أشرفت على الثلاثين، كما بدت له سنها.
حاولت سبق الأحداث وأنا أستمع طوال ربع الساعة المستمر التالي لأعرف كيف نشأت المشكلة، فواضح الآن أن كل شيء على ما يرام، وبلهفة متزايدة كنت أسأل، وأنتظر، وقصة اللائحة دائرة بأقصى سرعتها، وأعود أسأل، لأعرف في النهاية أنه الكمساري. المشكلة بدأت بمجيء الكمساري، كيف جاء؟ كيف تسرب؟ كيف أمكن ويمكنه أن يتحول إلى كائن أثيري يخترق الأجساد؟ لا أحد يعرف، المشكلة أنه مر ولكي يمر أحدث في الأجساد المدكوكة في فراغ العربة بقوى قاهرة ثابتة، أحدث خللا كالخلل الذي يحدث لأوضاع النجوم والكواكب إذا مرق بينها نجم هوى وتغيرت به قوانين الجاذبية؛ إذ في لحظة اكتشف الدكتور عويس أن من أمامه أصبح رجلا، وأصبح بقامته الأقصر، الحائل بين الدكتور وبين السيدة، ولا بد أن ارتياحا عظيما انتاب الدكتور عويس، وأعفاه من كل الضغوط، وجعله مرة أخرى يرفع المحفظة إلى أعلى، رايته السوداء، الخفاقة، المحتويات اللائحية في أمان الآن. - أوباش مدعون، أوغاد منافقون. - لم أفهم. - أوباش. - ماذا حدث. - أعفني أرجوك من هذه التفاهات، دعنا في المهم.
والتفاهات بدأت بتحركات لهذا الراكب القصير، غير مفهومة للدكتور عويس، ثم حين تكررت أوحت إليه بفكرة النشل، استبعدها، نقوده في جيب السترة وموضع الجيب فوق كتف الرجل تماما، ومن المحال أن يستطيع لوي أي من أذرعته ليصل إلى الجيب. آه، كده، إنه يعرف أن أشياء كهذه يقال إنها تحدث، لها عنده تفسيرات سيكولوجية وحضارية وأخلاقية وبالطبع على رأس القائمة أنثروبولوجية، هوبكنز تحدث عنها، إدوارد، ج. إدوارد له فيها بحث طويل، الألماني ريخته أضافها إلى الطبعة الجديدة من كتابه.
ولكن هذا الرجل المتحرك القصير الواقف أمامه الآن لا شك خبيث، ولا شك لم يحط بهذا المكان صدفة، انتهز فرصة التخلخل الحادث لمرور جسد الكمساري واحتل هذا الموقع الاستراتيجي خلف السيدة، وحتى هذا كله ليس مهما، كل هذه السفاسف سيجرفها التحضر يوما، حتى لو كان الدم قد غلا لوقت عابر في عروقه البحراوية، فما يجب أن يشغل به نفسه أهم.
ولكن الدكتور عويس اضطر لأن يؤجل انشغال نفسه بما هو أهم.
فالسيدة قد بدأت تتململ، وبقوة خارقة تتحرك، محاولة أن تستدير بجسدها وتأخذ وضعا أفضل، وأخيرا، حين بدا أنها مجبرة على الثبات في مكانها لا تتحرك شعرة، لوت، بكل ما تملك من قوة عنقها وقالت: بلاش مضايقة بقى، اتأخر، اتأخر شوية، الله!
ولأن وجهها بدا كما لو كان يوجه الكلام للدكتور عويس الأطول ففجأة وجد عويس نفسه محط أنظار العيون كلها وكل تساؤلها، طارت المشاغل وحتى اللائحة من رأسه فورا وسألها بحماس وسرعة: حضرتك بتوجهيلي أنا الخطاب؟
بصوت أعلى قالت: لا أنا بكلم الجدع اللي ورايا ده.
وتنفس الدكتور عويس في ارتياح بعد أن كان قد فقد النفس، أما الرجل القابع خلفها فقد بدأ يتكلم، كلماته صف طويل من صفائح «الجاز» الفارغة التي تهاوت تقرقع وتتخبط وتصنع زعيقا صفيحيا أجوف أكثر منها كلمات مفهومة. - ولزومه إيه الكلام الفارغ ده، مانا غصب عني، أنا قادر أتحرك، ما هو لازم نستحمل بعضينا، وكلها محطة وكل واحد يروح لحاله، ما الناس كلها مستحملة بعض أنت يعني اللي على راسك ريشة.
Página desconocida