وهكذا ترك لنفسه العنان وارتفع آخر حاجز كان يحول بينه وبين التفرغ كلية للتبتل والوصول، واستبدل السبحة المائة التي كان يسبح بها بسبحة ذات ألف حبة، وعدية يس كان يقرؤها كل ليلة، وفي كل مساء أيضا لا بد من ذكر، وكلما تطور الشيخ صديق في وصوله وانغماسه واندماجه وتفرغه كان محمد هو الآخر يتطور ويتهور، حتى أنه كان يذهب إلى سطح البيت مرتين في الليلة أحيانا أو حتى في النهار، بل تطور الأمر بمحمد إلى الحد الذي جاء عليه وقت أصبح مجرد سماعه لصوت الشيخ صديق وهو يؤذن أو وهو يضرع مستغيثا في مولد يجعله يحس بذلك الشيء في جسده يدق وينتشر الدم الفائر يعمي عينيه.
ولكن التعود، كالزمن، يقتل الأشياء، وبالتعود لم يعد محمد شديد الحماس لترك ما في يده كلما سمع صوت الشيخ مناجيا أو مستغيثا بعيدا عن الدار ويقفز إلى سطح أم جاد، بل ربما نوبات قلة الحماس تلك التي أصبحت كثيرا ما تنتابه، هي التي بدأت تحل عقدة لسانه وجعلته مستعدا لفتح قلبه ومكنون سره، ربما سره الأوحد، لأصدقائه، ثم لمعارفه، ثم بناء على طلب السامعين حين أصبحت القصة كلها، كمصير أي سر، معروفة مشهورة، لا تضر أحدا أو تجرح أحدا، مثلها مثل أي كلام، كل الفرق أن محمد في نهاية حكايته كان صوته يتهدج ويمتلئ بالتأثر إلى حد يوشك أن يستحيل معه إلى بكاء وهو يتساءل: ترى هل حقيقة سيدخل النار جزاء ما فعل؟ •••
ومن ناحيتنا كثيرا ما تداولنا نحن الصغار القصة، وكنا حين نأتي إلى النقطة التي تهم الصغار كثيرا، نقطة الجنة والنار ومن سيدخل ماذا، كنا نؤكد لبعضنا البعض ونجمع بكلمات عالية باترة أن اللذين سيدخلان النار حتما هما محمد وأم جاد، ولكن ربما هذا الإجماع الغريب هو الذي كان يجعلني أفكر في الأمر بيني وبين نفسي أكثر، وأكاد أضحك على هاتف ساخر عربيد كالبلياتشو ينتصب أمامي فجأة ويؤكد لي ويقسم أن الشيخ صديق هو داخل النار حتما، ومن أوسع الأبواب.
العصفور والسلك1
اختار أعلى بقعة وحط، كانت سلكا، مكانا بين عمودين من سلك تليفون، مخالبه تشبثت برفق، هبت الريح وصفر السلك، تمايل، تشبث أكثر، هو لا يكف عن الحركة، والحركة عنده مفاجئة، فجأة تأتي، فجأة تحدث، فجأة تبلغ أقصى المدى، فجأة شقشق، فجأة تلفت، فجأة رفرف، فجأة صوصو، انتشى فجأة، طار، حام، حوم، حط، تشبث، تلفت، على مقربة لمح الأليفة، رفرف، رفرفت، اقترب، اقتربت، صوصو، شقشقت، حك المنقار بالمنقار، حكت، أمال رأسه، أرقدت رأسها فوق رأسه، انتشى، نط، بالقفزة أحب بالقفزة هبط، بالنشوة تبرز، بصقة براز أبيض لونت السلك.
السلك صدئ، قديم، غير سميك، يحمل في هذه اللحظة بالذات، وفي نفس الوقت، سبع مكالمات معا ، لا شيء في الظاهر يحدث، في الداخل تدور عوالم وأكوان، سلامات، احتجاجات، تحيات، صفقات، وداعات، استغاثات، أرض تباع، بلاد تباع، أصوات غلاظ، صوصوات رقيقات، تختلط الكلمات، تتمازج، تتوحد، كلها في النهاية تصير، ماديا، إلكترونات، شحنات متجانسات، متشابهات، كلمة الحب لها نفس شحنة البغض، كهارب الصدق هي كهارب الكذب، الصراحة كالنفاق، اللوعة كاللعنة، الليل كالصبح كالنهار، الحرام كالحلال، النضال كالخيانة كالكفاح، البطولات كالنذالات، كلمات، شحنات، إلكترونات متحفزات متحركات، في ومضة بحركتها تتغير مصائر، تجهز مشاريع، تنتهي ونبدأ حيوات واتجاهات، ومضات وتتم موافقات، وتبرم صفقات، وتدبر مؤامرات، بالكلمات، بنفس الكلمات الطيبات.
والسلك قديم، صدئ، صامت، داكن، لا ينم مظهره عن شيء مما في داخله يعتمل ويدور، ولا يبدو منه أو عليه أقل تغيير، مستمر في وجوده الظاهر الطويل الممتد.
والعصفور متشبث بالسلك، بمخالبه البريئة يمسك بهذا كله ويحتويه، في ملكوته الخاص يحيا، لا يدري حتى بأن السلك سلك، بله بأن ما يسري فيه يسري فيه، إن هو إلا مكان عال للوقوف، وقوف كلما فرغ صبره منه، فجأة يتقافز، يرفرف، يشقشق، يطير، يحوم، بالقفزة يزاول مع وليفته الحب، وبنفس القفزة يهبط، وبالنشوة يصوصو، وبالنشوة خالي البال، يتبرز، بصقة براز صغيرة بيضاء، على السلك، نفس السلك، كالزمن، كالصدأ تتراكم.
الرحلة1
أنت وأنا ومن بعدنا الطوفان، لا تخف، سنرحل حالا، سنرحل إلى بعيد بعيد، إلى حيث لا ينالك أو ينالني أحد، إلى حيث نكون أحرارا تماما، نحيا بمطلق قوتنا وإرادتنا وبلا خوف، لا تخف، لقد اتخذت الاحتياطات كلها، لا تخف، كل شيء سيتم على ما يرام، أعرف أنك تفضل اللون الكحلي، ها هو البنطلون إذن، ها هي السترة، بالتأكيد ربطة العنق المحمرة، فأنا أعرف طبعك، لست بالغ الأناقة نعم ولكنك ترتدي دائما ما يجب، ما يليق، سأساعدك في تصفيف شعرك، أنت لا تعرف أني أحب شعرك، خفيف هو متناثر وكأنما صنع خصيصا ليخفي صلعتك، ولكنه أبيض كله سهل التمشيط، بيدي سأمشطه، بعدها وبالفرشاة نفسها أسوي شاربك، حتى هذا النوع من الشواب أحبه، هكذا رأيتك مئات المرات تفعل، وهكذا أحببت كل ما تفعل، كل ما أصبح لك عادة، حتى كل ما يصدر كنزوة، أتعرف أني فرحان فرحة لا حد لها، فرحة الإقدام على أمر لن يعرفه سوانا، لست مريضا هذه المرة وأستصحبك كالعادة إلى طبيب، ولسنا في طريقنا لزيارة أقارب مملين، فليظل الأمر إذن سرا بيني وبينك.
Página desconocida