ابتلعت ريقها، لماذا يجف حلقها باستمرار هذا الصباح، لماذا جف حتى سعلت وهو يمسك بيدها ويضغط عليها بين يديه؟
انفعالها لحظتها لم يكن أنثويا خالصا، لا، كان هناك شيء آخر لا تعرف كنهه، واتتها فكرة أن تجري، تسحب يدها وتظل تجري حتى تجد عربتها وتنطلق عائدة إلى البيت، البيت؟ يا لها من كلمة مضحكة!
الدكتور موجود في حجرة العمليات يا افندم، مشغول. ولكنه ينتظرني، بلغوه إني جيت. مش ممكن. قولوا له المدام. المدام؟! سعادتك المدام؟! لماذا سعادتك؟ وماذا يدهش في كونها المدام؟ لماذا الضجة والوقوف والترحيب المبالغ فيه وبصوت عال؟ لماذا تريد الانفراد بنفسها الآن، حلمها مكان قصي ليس فيه أحد، تنكفئ على نفسها فيه وتلقي على داخلها كله نظرة، لتدرك، فقط تدرك، كنه ما حدث، وما يحدث، ما هذا الذي يحدث؟
يا افندم، هو يقوم بإجراء عملية الآن فعلا، وبلغناه الخبر، وطلب أن تتفضلي وتنتظريه في استراحة العمليات. يووه! تنتظر، تنتظر، لقد عاشت طول عمرها تنتظر، ولا ثانية ستنتظر بعد الآن، ولكن كيف تتصرف واستصحابه والعودة به إلى البيت هو سبب خروجها الوحيد اليوم؟ كيف إذن تعود بمفردها؟ فلتكن آخر مرة تنتظر فيها، آخر مرة، هو أو غيره، آخر مرة.
تفضلي، تفضلي من هنا. هذا الأراجوز، لماذا لا يكف عن الانحناء واختلاس النظر من تحت النظارة؟! إذن هي من جديد ستنتظره، بحق بحق، هل تكرهينه؟ هل تحبين هذا الآخر؟ حين كنت تحبينه ماذا كنت تفعلين؟ هل تحسين بنفس المشاعر الآن تجاه الآخر؟ لطيف شكله، رياضي، طويل، شعر صدره كثيف كالفروة. عن عمد، وله حق، يفتح قميصه، أكبر منك بعام فقط بينما هو أكبر بسبعة أعوام، لماذا يطرأ هذا الخاطر السخيف؟ إذا فعلا خيرت أن يموت أحدهما، فمن تختارين؟ هو؟ الآخر؟ يموت! هكذا بسهولة! ابتسامته العذبة تموت، ذقنه الغزيرة؟ غمازتاه؟ يداه الضخمتان الحمراوان من باطنهما، الغامقتان من الظهر بالشعر، يداه الضخمتان جدا - إذا قورنتا بيديه هو - القويتان، أصابعهما غليظة سميكة، من الصعب ثنيها، أين هذا من يديه هو، يديه الصغيرتين إذا انطبقتا حتى لتبدوان كزوج من الفيران الصغيرة، وأصابعه النحيفة التي توشك أن تنكسر، من اليدين تتبدى شخصية الرجل، شبه كبير بين شخصية الرجل وشخصية سبابته، سبابته هو في طول أصبعه الأوسط، طويلة رقيقة كأنها من عظم كسي بالجلد، سبابة الآخر كماسورة المسدس، قوية دائما تريد الشيء وتحدده ولا تعود إلا به، لماذا إذن تختاره ليموت، ألأن الزوج هو الذي ينفق ويتيح الفساتين والمتعة والماس، أم لأن العشرة لا تهون؟ أم لأنك لا زلت تحبينه؟ هل لا زلت تحبينه؟ لا تخجلي، اعترفي إن كنت لا زلت، لو لم يكن هناك فمه الواسع المتثائب في الصباح، الجريدة التي يغرز بصره فيها، منظره ببنطلون البيجامة والبيجامة مفتوحة والسروال ظاهر، هذا التجشؤ منه بصوت عال بعد الماء الكثير الذي يشربه، عشر سنوات ومنظره وهو داخل الحمام وهو خارج منه نفس المنظر، نفس الطريقة، نفس الغياب الطويل، عشر سنوات تسمع منه نفس التعليقات عن نفس الأشياء وبنفس النبرات، عشر سنوات تعرف عنه كل شيء، كيف كان يعامله أبوه، كيف دللته أمه، كيف أحب أول مرة، تعرف حتى ماذا يقوله في الساعة الخامسة غدا وبعد غد، لو دق الجرس من طريقته في الدق تعرف ما يريد، وتطلب من السفرجي أن يحضره. البيت، لكم تكره كل ركن فيه! فهي قد رأته آلاف المرات، موبيليته لم تعد تراها من كثرة ما تعودت رؤيتها، مطبخه يخنقها، صوت أزيز الثلاجة من طول ما سمعته يلسعها، ويؤرقها ويملأ جسدها بالشياطين. في التاسعة عشرة حين تزوجت كان الجنة، كان هو أعظم وأجمل وأكرم وأرق رجل في العالم، الخمس سنوات الأولى قضتها لا ترى رجلا غيره، الرجال بالنسبة لها لم يكونوا أفرادا، لم تلحظ أيهم ذات مرة كواحد وحده، كانوا كتلة، أهم شيء فيها أنه، هو، منها. •••
اتفضلي حضرتك، دقائق، حاجة ساقعة؟ قهوة؟ أنا ماشي، حاضر، متشكر. استراحة هذه أم قبر؟ حاولت فتح زجاج النافذة الوحيدة، لا يفتح، جلست، تطلعت، ملابس، بدل رجال، أين بدلته هو؟
هي المطلة من الدولاب، معلقة بعناية شديدة كالعادة، الأحذية الطويلة الرقبة هذه، هذه الآثار، دماء؟ دم! بشع، جزارين! قامت، دارت، أمسكت بقميص عمليات أبيض دمور رخيص، البنطلون دمور أيضا، أقذر دمور، الأبيض، لماذا كل شيء أبيض؟ حتى الأحذية الطويلة كاوتش أبيض، ألا يملون! هؤلاء الأطباء! هي ملت. الملل. أبشع أنواع الملل. الملل من شيء لا تستطيع الاستغناء عنه كأنما تمل من نفسك، عشر سنوات ملل، لن تبالغ، ساعات وأيام صحيح كانت خالية من الملل، ولكن يوم ملل واحد يجعلك تمل من العام كله. إنه كالسم، أقل القليل منه يقتل، أيكون هو الذي جعلها بدلا من التجاهل تبتسم للآخر، كان قد سبقها إلى العربة بعد جلسة استمرت ثلاث ساعات في النادي لم ينطق خلالها إلا بثلاث كلمات، أين ذهب الكلام من فمه. ثاني أو ثالث مرة ترى هذا الشاب يتابعها، هذه المرة تجرأ، حياها، كان ممكنا أن تزجره ولو بالإهمال، لماذا ابتسمت؟ لماذا أحس أنها ابتسمت؟ حتى قبل أن ينطق في التليفون عرفت أنه هو الآخر، وأنه اختار الصباح ليحدثها حيث البيت خال ، مغامرة؟ ولم لا؟ كل صديقاتها يغامرن، لماذا لا تجرب هي؟ المهم ألا يعرف أحد، تصنع الدهشة لم يعد يجدي، ولا كذلك تصنع الغضب، انتهت المكالمة مفتوحة.
ثاني يوم، ثالث يوم، ورابع يوم، كان صوته هناك، كان الخوف أقل. التطلع لشيء مثير جديد أكثر، بماذا تجيبه لو طلب للمرة المائة أن يقابلها؟
وجدت جرسا، دقت عليه، لم يحدث شيء، دقت أكثر، سمعت أقداما، ظهرت على الباب ممرضة سمينة جدا وصغيرة في السن ربما لا تتجاوز السابعة عشرة، لا تعرف ما قالته، فقط قالته بصوت عال جدا شحب له وجه الممرضة الملظلظ وانسحبت بسرعة. هدأت. صفر خاطر مروع كالصرخة الأولى التي تنطلق في سكون الليل ونعرف بها أن ساكنا في الشارع مات لتوه، كيف فعلت ما فعلت؟ كيف انساقت؟ كيف سقطت الملكة أيضا، ولم يعد أحد أحسن من أحد؟ خيانة؟ لا، لم يحدث، كلام مجرد كلام، لقاء، كأنه كلام، والموعد القادم؟ لن أذهب، لا، ليست خيانة، كل الخائنات لا يعترفن، يفعلن أي شيء ويسمونه أي اسم، إلا الاسم الحقيقي، كرهته، اتركيه، أليس هذا ما كانت تردده؟ الاشمئزاز الذي كان يعتري جسدها حين تتأكد أن صديقتها أو فلانة هي الأخرى قد سقطت. إن اشمئزازها الآن من نفسها؟ لماذا هي باردة هكذا؟ أين تأنيب الضمير؟ لكأن شيئا قط لم يحدث، فقدت حتى الإحساس بالذنب، أنا لم أجرم، أنا مضطرة لإخفاء كل شيء لأن ضميري يأبى علي تركه، يموت لو تركته، ولم أعد أحبه، النتيجة أني فقدت العقل، جنون ما فعلته، اعترفي أنه ادعاء للجنون فأنت أستاذة في تعليق كل شيء تفعلينه على شماعة من خطأ الآخرين، أو خطئك. الجنون، الكره، الضيق، حتى حب الاستطلاع، شماعة، مجرد شماعة.
عادت الممرضة السمينة، هبت واقفة، ماذا يقول؟ مرة ثانية يرجوني، أمامه نصف ساعة؟ وماذا أيضا؟ مسكين والله، في قمة مشغوليته يفكر في، يقترح أن أذهب لحجرة العمليات لأتفرج على العملية وأتسلى، يريد تسليتي ولو بحجرة العمليات، هل ممكن أن أذهب هناك؟ أرتدي هذه المريلة وهذا الحذاء، وقناع ؟ فقط. لا، أشكرك وأشكره، أنا لا أضمن نفسي، الجراحة تثيرني، صحيح هو جراح أطفال مشهور، ولكني أنا أخاف من نقطة الدم، أحسن أنتظر، طبعا تنتظرين، وحبذا لو تألمت وأنت تنتظرين، فأنت في الواقع تريدين أن تتألمي، ويكون هو بالذات مبعث ألمك حتى تشعري ببعض من راحة الضمير، هذا الذي طول الوقت رابض داخلك يراقب ولا يتكلم تريدين رأيه وتخافينه، ولهذا تريدين أن تتحركي وتشغلي نفسك عن السؤال باستمرار، السكون مؤلم، الضمير يتكلم حين نسكت، الممرضة لم تبتعد كثيرا، ربما قريبا من باب الحجرة تجلس، لا بد أنه هو الذي طلب منها أن تسهر على رعايتي، يدللني كثيرا، لو يكف عن تدليلي، لو يفعل شيئا يجرحني ويغضبني ويجنني حتى لا أحبه لأنه لا يفعل شيئا أبدا، يا لهذا الاحتكاك الأليف الدائم، الرجل حين شيئا فشيئا تتساقط عنه مظاهر الرجولة واحدة بعد الأخرى الهيبة التي تمضي وتذهب، الأسد وهو يتحول إلى جرو يؤثر السلامة ويقنع بوضع ذيله بين رجليه، بشع هذا الاحتكاك الدائم الأليف، المرأة المطلوبة المشتهاة التي لا يلقاها أحد إلا بميعاد واستعداد حين تصبح بضاعة حاضرة، في متناول كل ليلة وكل لحظة، بطاقة تموين عائلية تصرف في كل أسبوع مرة. الحب، من رغبة متأججة إلى واجب كزيارات رد الزيارة، كالتعازي في المآتم والتهاني في الأفراح، لا بد أن طول الاحتكاك هذا يجعل الرجل أقل رجولة، تعديه أنوثة المرأة وتظل تؤنثه أكثر وأكثر، ولا بد أنه هو الآخر يعديها برجولته فتسترجل أكثر وأكثر، ويكادان في النهاية أن يتقاربا ويصبحا بطول الزمن وكأنهما من نفس جنس آخر ثالث.
Página desconocida