الطبيعة الراعدة عبر البحر والجبال، والنار على المحاور، وسيول السيارات والشاحنات الحبيسة الكسحاء على الطريق المتعرج ما بين دمشق ومداخل بيروت.
قدم هذه المدينة هربا بجلده من حصارات أكثر قسوة، لماذا كل ما بداخل حقيبته لا يعدو مخطوطات الحكايات الصغيرة والاستطرادية التي دأبت الشفاه على أن تلوكها بلا توقف أو هوادة، من حيث إنها تحفظ ما يمكن أن يشابه الذكريات، تلك التي مكانها الذاكرة، مستودع الحكايات الصغيرة، التي قد توغل في قصرها وإيجازها، إلى حد المأثور، النكتة، أين هي فيما يحدث من حصارات الجليد، ودوي الانفجارات، وتلك الشبورة الجاثمة الثقيلة المغيبة لكل مرئيات؟
وفي لحظة متقاربة، بل لعله «أتموسفير» متناسق، هو ذلك الذي جمع بينهما منذ أول لقاء، حيث جاء كلاهما من بلده ومسقط رأسه، ومرتع طفولته، هي من إحدى قرى الجنوب التي يحتضنها الجبل الشاهق المائل؛ راشيا الفخار، هربا من اعتداءات إسرائيل التاخمة، وهو من إحدى قرى الفيوم، وما اشتهر عنها منذ فخار ما قبل التاريخ والدولة القديمة، مرورا بفخار الإقليم الأرسينوي البطلسي الهليني الروماني والقبطي، وحتى أيامنا، حيث يقوم الفلاحون وحفارو المقابر بنهبه بالمقاطف والجوالات من «كيمان فارس» وأهناسيا المدينة، وأبو صير الملق، وجميع الهوارات السبع، واللاهون.
أكداس من التماثيل الفخارية المهمشة في عمومها كان يحرص في جمعها على ما تبقى منها من رءوس الآلهة والملكات والآلهات: إيزيس، حورس، نفتيس، هاثور، وإله الموتى حارس الرمم أنوبيس، الذي يحرص تجار الآثار على تلقيبه بأبي الحصين.
هي هي ذات البلدان التاريخية للموتى وما خلفوه للأحياء، هي بذاتها الموغلة في العوز واللاأمن.
قال: لعلها هي هي المعضلة الجاثمة لسيول السيارات والشاحنات الحبيسة داخل أكداس الجليد، ويشاع عبر نداءات السائقين وإجهادهم أن الأمر قد يحتاج إلى نجدات عاجلة بالهيلوكوبتر.
الأمن وافتقاده.
عبر كل المحاور الملتهبة بالجليد ونيران الميليشيات.
وبدا هو بدوره «المهاجر» بمنظاره ومعطفه المتهدل، وهو يرقب وجهه بلا تعمد في مرآة السيارة، مكفهرا.
كان قد بدأ يغزوه خوف حقيقي على محتويات حقيبته، نصوص حكايات فقراء فلاحي مصر ونداباتها التي دونها للمرة الأولى من أفواههم، أهازيجهم وغنائهم وندبهم الذاتي بقلم رصاص أو كوبيا، وظلت حبيسة عنده منذ أكثر من عشرين عاما إلى أن جمعها بترابها وأودعها حقيبته المهترئة هذه التي أصبحت غارقة في مياه الأمطار، والتي لا بد أنها لحقت ورقها الأصفر الرخيص المهترئ، إنها كل ما خرج به من بلده، سواء الفيوم، أو قاهرة السادات التي أدماها القهر، وألبسها شاراته - أو طرحاته - السوداء المهينة.
Página desconocida