نعم، لن تستقيم لمصر أمورها حتى تنهى التقاليد وزير التقاليد وأمثاله عن استغلال المدارس لما لم تنشأ له المدارس، واستغلال السلطان لما لم ينشأ له السلطان.
أما بعد، فقد كنت أظن يا سيدي أنك ستحزن إن نظرت إلى يمين فرأيت الطغاة وقد انهزموا بعد انتصار، وذلوا بعد عز، وأنك ستضحك إن نظرت إلى شمال فرأيت التقاليد تلعب حول وزير التقاليد، ولكني رأيتك محزونا في الحالين، يضحك وجهك وتبكي نفسك، فلا تلمني في هذا، ولكن لم حياتنا المصرية، واذكر أن أبا الطيب قد تنبأ لك ولي ولأمثالنا منذ ألف سنة بهذه الحال:
وكم ذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا
إبريل 1935
أدب الصيف
أقبل الصيف، وأقبل معه قيظ شديد مرهق لا يصهر الأبدان وحدها، ولكنه يصهر معها العقول، ولعله يصهر مع العقول والأبدان بعض الأخلاق أيضا، فيدفع قوما من الأمر إلى ما لم يكونوا ليدفعوا إليه لو لم يشتد القيظ على أبدانهم وعقولهم وأخلاقهم، فيمنعهم من الأناة والمهل، ومن التفكير والتروية، ومن ضبط النفس وتسليط العقل على الإرادة حين يعملون أو يقولون. ولكني لم أكتب لأحصي آثار القيظ الشديد المرهق في أبدان الناس وعقولهم وأخلاقهم، وإنما أريد أن أسجل أن هذا القيظ الشديد المرهق لا تستقيم معه الأحاديث عن الشعر القديم عامة، وعن شعر الجاهليين خاصة. فالأحاديث عن هذا الشعر تحتاج - فيما يظهر - إلى شيء من الراحة والهدوء، والقدرة على التفكير المطمئن، وهذا الفراغ الفني الذي يتيح للذوق أن يستأني ويتمهل ويسيغ الأشياء في غير جهد ولا مشقة، ولا تعرض لهذا العناء السريع الذي نتعرض له حين يسلط الجو علينا هذا الحر الشديد.
وأكبر الظن أن صاحبي الذي تعود أن يسرع إلي، إذا كان ميعادنا من كل أسبوع لنأخذ فيما تعودنا أن نأخذ فيه من أحاديث الشعر القديم، قد أحس من الصيف مثل ما أحس، وأنكر من نفسه مثل ما أنكر، واستيقن أن طاقته لا تستطيع أن تثبت لدرس الشعراء القدماء، وما يعرضون له من صور مهما تكن جميلة رائعة، موفورة الحظ من الروعة والجمال، فإنها أبية عصية، لا تسمح بمكنونها، ولا تتكشف عن مخزونها إلا بعد شيء من التردد والتمنع والإباء، يكلف الذين يطلبون إليها جمالها وروعتها شيئا من جهد، وفضلا من عناء.
يظهر أن صاحبي قد أحس هذا كله فأخلف الموعد لأول مرة، ثم أخلفه للمرة الثانية، ثم سألت عنه والتمسته في مظانه، فلم أهتد إليه، ولم أدل عليه، وخيل إلي أنه قد فر من هذا الجو فرارا، وأي شيء أيسر عليه من الفرار، وهو لا يحتاج إلى مثل ما نحتاج إليه نحن من التهيؤ الطويل الثقيل للأسفار، فلا بد لي إذن من أن أستيئس من التحدث إليه في الشعر القديم حتى تنجلي غمرة الصيف، وإذا كان هو على لينه ورقته واعتصامه بهذه الرقة وذلك اللين من أعراض الحر والبرد قد فر من أحاديث الشعر القديم، فما أجدر غيره من الناس أن يضيقوا بهذه الأحاديث، وما أجدر الكتاب إذا لم يكن لهم بد من الكتابة أن يرفقوا بقرائهم إذا كتبوا، وألا يتحدثوا إليهم من الموضوعات فيما يكلفهم جهدا وشططا.
والكاتب مدين لقارئه بهذا الرفق، أو قل: إن الكاتب مدين لنفسه بأن يرفق بقرائه إن كان حريصا حقا على أن يقرءوه، راغبا حقا في أن يتحدث إلى عقولهم اليقظة المفكرة، لا في أن يكون سبيلهم إلى الضجر والسأم، أو إلى الفتور والنوم.
Página desconocida