تبين هذه الأشياء إن استطعت أن تتبينها، وأحط بها إن أتيح لك أن تحيط بها، إن فيها الحي والميت، إن فيها الصائح والصامت، إن فيها الغالي والرخيص، إن فيها المبتذل والنفيس. هذا ديك يصدح، وهذه دجاجة تصيح، وهذا أرنب يعدو، وهذه أداة تدور، وهذه حقيبة تمتلئ، ثم تفرغ، ثم تمتلئ، ثم تفرغ. وهذا مصباح قد علق وهو يضطرب اضطرابا، ويدور حول نفسه دورانا، وهذا بساط قد نشر في الجو ينتظر من يجلس عليه؛ ليطير به إلى حيث يريد الله، وهذا نرد يدعو اللاعبين، وهذا شجر قد اكتسى من أخضر الورق، وآتى من جميل الزهر وطيب الثمر، وهذا مطر ينهمر انهمارا، وتصبه السماء صبا، ولكن احذر أن تدنو منه؛ فإني أخشى على رأسك أن يشج، وعلى أنفك أن يجدع، وعلى وجهك أن يصيبه أذى، وعلى ذراعك أن تتحطم، وعلى ساقك أن تندق.
إن السماء يا سيدي لا تمطر ماء ولا عسلا ولا خلا ولا زيتا، ولكنها تمطر علبا مختلفة الأحجام، متباينة الأشكال، قد اختلفت فيما بينها ، وتنوعت محتوياتها، ففي هذه «مربى» البرتقال، وفي هذه «مربى» السفرجل، وفي هذه «مربى» المشمش، وفي هذه لون من ألوان الحلوى، وفي هذه فن من فنون الفاكهة. واحذر هذه القطرات الغريبة، التي لا تكاد تبلغ الأرض حتى تنحطم عليها انحطاما، ويخرج منها شراب مختلف ألوانه، فيه ري للظمأ، وفيه تملق للفم، وفيه حلاوة وعذوبة، وقد يؤذي بعض الحلوق أحيانا، إنها زجاجات الشراب يا سيدي، عصير العنب، وعصير البرتقال، وعصير الليمون.
وانظر إلى هذه الأقراص التي تدور لا تريد أن تقف، ولا تحب أن تسقط؛ وإنما هي تدور في مكانها، وتبعث من حولها روائح غريبة لا تحبها الأنوف جميعا، ولكن من النفوس ما تطير من حبها شعاعا. تبين هذه الأقراص يا سيدي؛ ألم تعرفها بعد؟ ألم يهدك إليها عبيرها هذا المنكر الغريب كما هدى عمر بن أبي ربيعة إلى صاحبته عبيرها ذاك، الذي كان يصدر عن خيمتها فيملأ الجو عرفا وطيبا؟ انظر إلى هذه الأقراص؛ إنها أقراص الجبن يا سيدي، وأي جبن! ما شئت من ألوان الجبن، جبن أجنبي وجبن مصري، جبن رقيق وجبن غليظ، جبن خشن وجبن ناعم، جبن جاف كأنه الحجر، وجبن رطب يسيل لعابه ويتحلب منه المش، وتجري فيه فنون من دقيق الحيوان.
وانظر إلى هذه الآنية التي تدنو وتنأى وتقرب وتبعد، وتصعد في الجو، وتهوي نحو الأرض، داعية إلى نفسها مدلة بما فيها، أتعرفها؟ أتعرف ما تحتوي من الألوان؟ إنها القشدة؛ القشدة التي يبيع فيها بعض العمد نفوسهم بيعا. انظر يا سيدي إلى ما سميت وما لم أسم، وإلى ما وصفت وما لم أصف، انظر إلى الأشياء والأحياء كيف تضطرب وتدور، وتأتي هذه الحركات العجيبة الغريبة، على صوت هذا المعنى البارع الرقيق الرشيق، الخفيف الظريف، الوسيم القسيم، الذي يتغنى التقاليد، وجمال التقاليد، وقدس التقاليد، وما يجب للتقاليد من حماية، وما يجب للأخلاق من رعاية، وما يجب للضمائر من صفاء، وما يجب للأيدي من نقاء، وما يجب للمناصب من كرامة، وما يجب لأصحاب المناصب من ارتفاع عن الصغائر، وتنزه عن الدنيات.
انظر يا سيدي إلى يمين، فخذ بحظك من الحزن، وانظر إلى شمال فخذ بحظك من السرور، فلا خير في الحياة إذا لم تكن حزنا وسرورا، ولذة وألما، وجدا ولهوا. انظر عن يمين وانظر عن شمال، ثم انظر أمامك إلى هذا البلد الحزين التعس، الذي يعدو على حقوقه أصحاب الجد، ويلهو بمنافعه أصحاب اللهو، وهو يحتمل عدوان أولئك، ويحتمل لهو هؤلاء، محزونا حينا، مسرورا حينا آخر، ساخرا من أولئك وهؤلاء دائما؛ لأنه قد بلا من الدهر خيره وشره، وذاق من الأيام حلوها ومرها، ووثق بأن عدل الله قريب، وبأن الحق منتصر مهما يتصل سلطان الباطل، وبأن صرح الجور مندك مهما يشيد بأضخم الأحجار وأصلب الصخور.
ولكن دعنا من فلسفة الأخلاق؛ فما تتسع الحياة لفلسفة الأخلاق، وحدثني عن هذه الأشياء التي تضطرب، وهذه الأحياء التي تتطاير وتتصايح، ما خطبها؟ من أين أقبلت؟ وإلى أين تريد؟ أو أين ومتى تحب أن تستقر؟ زعمت وزارة المعارف أنها أقبلت من مدارس وزارة المعارف المنبثة في أرجاء مصر قاصدة إلى بيت وزير من وزراء المعارف، في حي من أحياء القاهرة، أو في قرية من قرى الريف. لا تهز رأسك، ولا ترفع كتفيك، فما في هذا الحديث من شك، وما في هذا الحديث من ريب، إنهما تقريران نشر أولهما صباح الأحد، ونشر ثانيهما صباح الثلاثاء، وزعم ناشرهما أنه أخذهما من وزارة المعارف، ولم تنكر عليه الوزارة ما زعم، ثم لم ينكر وزير المعارف ذاك ما نسب إليه في أول هذين التقريرين، وسنرى أينكر ما نسب إليه في ثاني هذين التقريرين.
خرجت إذن هذه الأشياء، وخرجت إذن هذه الأحياء من مدارس الصناعة والزراعة إلى بيتي وزير التقاليد. فليت شعري! أسار إليه منها ما سار، وطار إليه منها ما طار، حبا له وهياما به، وشوقا إليه؟! أم سار السائر وطار الطائر؛ استجابة لدعاء وتحقيقا لرجاء، وشفاء لبعض ما في الصدور؟! ... خرجت إذن هذه الأشياء وهذه الأحياء من مدارس الصناعة والزراعة إلى بيتي وزير التقاليد، فليت شعري! أؤديت أثمانها كما ينبغي أن تؤدى الأثمان؟ أم أديت لها أثمان لا تعدل قيمتها، ولا تلائم ما حملت إلى الوزير من لذة وبهجة وراحة ومتاع؟! ... أما وزارة المعارف فتنبئنا بأن هذه الأشياء قد بيعت من الوزير بثمن بخس، وبأن للدولة عند الوزير مائة وبعض المائة من الجنيهات، وليت شعري! ما حكم الله في هذه المائة وبعض المائة من الجنيهات؟ أتبقى عند وزير التقاليد؟ أم تؤدى إلى وزير المعارف ليؤديها إلى وزير المال؟ وليت شعري! أأنشئت مدارس الزراعة والصناعة لتصلح بيت الوزير وما تملك من أدوات الزرع؟ ولتذيق الوزير والذين يدعوهم إلى مائدته ما في الحياة من لذة وبهجة ونعيم؟! أم أنشئت مدارس الصناعة والزراعة لتعلم المصريين كيف يصنعون ويزرعون، وكيف يتخذون الصناعة والزراعة وسيلة إلى ترقية الحضارة واكتساب العيش والتماس الحياة؟!
وليت شعري! ماذا يقول لضمائرهم هؤلاء الناس الذين طعموا على مائدة الوزير من ألوان الجبن والقشطة، وشربوا عند الوزير ألوان الشراب، واستمتعوا على مائدة الوزير بلحم تلك الطير التي أهديت إليه إهداء أو أخذت له أخذا، والتي أدى أثمانها الصورية إلى الدولة هذا البيطار أو هؤلاء التلاميذ؟!
وليت شعري ماذا يقول الوزير لضميره وماذا يقول للوزير ضمير الوزير؟ وليت شعري! أيسمع الوزير إذا جلس في مكتبه وحيدا أو مع أصحابه، أحاديث هذا المتاع الذي انبث في الحجرة، وهذه الإطارات التي علقت على الجدران؟ أيفهم هذه الأحاديث؟ أتثير في نفسه ألما؟ أتبعث في قلبه ندما؟ أتسبغ على وجهه الحمرة التي تسبغها المخجلات على وجوه الذين يخجلون؟ وليت شعري! ما حكم وزير المعارف القائم في هذا العبث بالمدارس والاستغلال للتعليم والإفساد لعقول الطلاب، وعقول المعلمين، وأخلاق الموظفين؟ وليت شعري! ما حكم وزير المال في هذا العبث المخزي بأموال الدولة؟ وليت شعري! ما حكم رئيس الوزراء ومجلس الوزراء في هذا الخزي المنكر وهذا الفساد العظيم؟ أليس من سبيل إلى أن يسأل المسيء عما أساء؟ ويؤخذ المذنب بما أذنب؟ ويعاقب الآثم على ما قدمت يداه؟ أقضي على هذا البلد أن تقترف فيه الآثام سرا وجهرا وتجترح فيه السيئات خفية وعلنا، وتهدر فيه القوانين، وتنتهك فيه الحرمات، ثم لا يسأل آثم عن إثم، ولا يؤخذ مجرم بجريمة، وإنما يستمتع المسيء بمثل ما يستمتع به البريء؟
نعم، ليت شعري، وليت شعري، وأنا أستطيع، وأنت تستطيع أن تردد معي هذا السؤال ألف مرة ومرة دون أن تنتهي إلى جواب؛ فمنذ عام ونصف عام تظهر الفضيحة إثر الفضيحة، وتعلن المخزية إثر المخزية، والمصريون ينظرون ويسمعون ويألمون ويشكون، ثم تنتهي أمورهم عند هذا. كلا، كلا، لن تستقيم للمصريين أخلاق إلا إذا عوقب المسيء على إساءته، ولن تصلح للمصريين حياة إلا إذا سئل المجرم عن جريمته، ولن تكون لمصر سمعة تلائم ما تؤمن به لنفسها من كرامة، إلا إذا عرف الأجانب واستيقنوا أن مدارس الصناعة والزراعة لم تنشأ لإصلاح بيوت الوزراء وإرضاء حاجاتهم إلى الدجاج والأرانب وألوان الفاكهة والحلوى.
Página desconocida