عيد
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
هذا سؤال ألقاه المتنبي على أحد الأعياد في مصر منذ ألف عام، وأظن أن كل شاعر أو غير شاعر يستطيع أن يلقيه اليوم على عيد الاستقلال الذي تنعم به مصر السعيدة، ويستطيع أن يلقيه في نفس اللهجة اليائسة البائسة التي اصطنعها المتنبي، فقد تغيرت أشياء كثيرة منذ ألف عام في مصر، ولكن شيئا واحدا لم يتغير؛ وهو أن الشعب المصري ما زال كما تصوره قصيدة المتنبي راضيا ناعما رضي البال، تختلف عليه الأعياد فيستقبلها مبتهجا مغتبطا؛ لأنها تحمل إليه من ألوان السعادة والبهجة والغبطة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. والشعراء وأمثال الشعراء من المفكرين والمفلسفين هم وحدهم الذين ينظرون إلى هذا الشعب، فإذا رأوه ساهيا لاهيا، وراضيا ناعما؛ رسموا على ثغورهم هذه الابتسامة الحزينة الكئيبة المرة، وقالوا كما قال المتنبي:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
وقد أرادت دورة الفلك أن يستقبل المصريون اليوم عيدين في نهار واحد: عيد قديم بعد به العهد؛ وهو عيد وفاء النيل، وعيد حديث قرب به العهد؛ وهو عيد الاستقلال. ففي مثل هذا اليوم من سنة 1936 أمضى المصريون - وكانوا يومئذ مجتمعي الكلمة موحدي الرأي - هذه المعاهدة التي تنظم الأمر بيننا وبين حلفائنا الإنجليز، ثم عادوا فقرروا أن هذا اليوم سيصبح عيدا وطنيا يذكر فيه المصريون خطوة خطيرة خطوها في سبيل الاستقلال. وما أظن أنهم قرروا أن يكون هذا اليوم عيدا يطمئن المصريون إليه ويقنعون بما يصور من ظفرهم ببعض الحقوق، وإنما أعتقد أنهم اتخذوه عيدا يثير في المصريين الأمل والشجاعة ومضاء العزم، يذكرهم بأنهم جاهدوا فظفروا ببعض الحق، فيجب عليهم أن يجاهدوا ليظفروا بالحق كله. مهما يكن من شيء؛ فالمصريون سعداء اليوم قد قرت عيونهم، وطابت نفوسهم، واطمأنت قلوبهم؛ لأن النيل قد وفى لهم بما عاهدهم على أن يمدهم به في كل عام من الري والخصب والثراء، ولأن حلفاءهم الإنجليز قد وفوا لهم بما عاهدوهم عليه من احترام الاستقلال والاعتراف بالكرامة، والاحتفاظ لهم بالمودة والحب على أساس من الحق والعدل والمساواة.
وفى النيل فيجب أن يسعد المصريون، ووفى الحلفاء فيجب أن يسعد المصريون، وهم سعداء. ألا ترى إلى الحكومة قد قررت إراحة الوزارات والمصالح من العمل في هذا العيد السعيد، فأباحت للموظفين أن يناموا حتى يرتفع الضحى، وأن يستيقظوا آمنين لا يشفقون من الانتقال إلى دواوينهم مع صعوبة الانتقال، ولا من هذه الأعمال الشاقة المرهقة التي ينهضون بها في مكاتبهم، وأذنت لهم بأن يقيموا في بيوتهم إن يشاءوا، ويختلفوا إلى أنديتهم وقهواتهم إن أحبوا، يلقى بعضهم بعضا باسما، ويلقي بعضهم إلى بعض ألوان الحديث، يتندرون بما تنشر الصحف من أخبارهم وأخبار نظرائهم، ويتحدثون بما تنشر الصحف من ضروب الخصام والصراع بين المصريين، ويتفكهون بما تنشر الصحف المضحكة من ألوان الفكاهة وفنون الصور وصنوف الإشاعات، يجدون في هذا كله اللذة كل اللذة، والنعيم كل النعيم، ومتى تلتمس اللذة إذا لم تلتمس في يوم العيد، ومتى يطلب النعيم إذا لم يطلب يوم وفاء النيل بالري والثراء، ويوم وفاء الحلفاء بالكرامة والاستقلال؟
ألا ترى إلى الحكومة قد أمرت أن ترفع الأعلام على الدواوين في العاصمة والأقاليم؛ ليرى الناس جميعا أن الأمة المصرية راضية مبتهجة، تحتفل بعيدها السعيد، أو بعيديها السعيدين؟ كل شيء يدل في وضوح وجلاء على أننا سعداء، ويوجد بيننا مع ذلك من يرسم على ثغره هذه الابتسامة الحزينة الكئيبة المرة، ويقول في لهجة المتنبي الساخرة اللذاعة:
عيد بأية حال عدت يا عيد
Página desconocida