وفي يوم جاءنا من يقول: البارودي اتمسك.
ولم يكن البارودي هو وحده الذي قبض عليه، كانت الحملة ممتدة وواسعة، حتى إننا - الجزء الذي بقي من المحررين - لم نصدق أننا أفلتنا من الحملة، وظللنا كل يوم نتوقع أن تمد يدها الغادرة وتشملنا. ولكن مهما كان الوضع فقد كان علينا أن ندبر أمر المجلة بعد البارودي. وتولى أحمد شوقي رياسة التحرير، وازددنا نشاطا وحماسا، غير أن الظروف ظلت تسير من سيئ إلى أسوأ، والمجلة أصبحت مشبوهة يخاف الناس تداولها، والعقبات تتكاثر، وضربات حكومة ذلك الوقت تنهال علينا، وبعض المترددين كفوا عن دفع الاشتراكات والهبات. وما لبث عملنا نفسه أن عانى من كل تلك العوامل فبدأ يتأثر، وبدأ ينقلب في أحيان إلى روتين، وبدأنا نثور.
والحقيقة أن ثورتنا لم يكن سببها تلك العقبات، كان سببها راجعا أساسا إلى أمور أدركناها، بعد دخول البارودي السجن، شيئا فشيئا بدأنا ندرك أن عملنا يضيق؛ لأن أساس عملنا نفسه كان في حاجة إلى تعديل جذري.
ولا أعرف كيف حدث هذا بالنسبة لبقية الزملاء في المجلة، ولكني أذكر أني بدأت أحس بالتناقض داخل نفسي أنا. كانت خواطري القديمة، وعدم هضمي لكل تلك الأساليب الأوروبية في العمل الثوري نفسها قد بدأت تعود إلى تفكيري، بل بدأ يخطر لي أحيانا أن كل ذلك العالم السري الذي عشت فيه وقضيت أهم سنوات عمري أخوضه، لا يمكن أن يؤدي بنا إلى ثورة حقيقية ننقذ بها بلدنا.
وكنت أكافح ما استطعت لأحتفظ بخواطري تلك لنفسي، غير أني أحيانا كنت أصارح شوقي بها. كان لا يدهش ولا يستنكر. كان في مبدأ الأمر يحاول إقناعي بصلاحية أشياء، ويوافقني على عدم صلاحية أخرى، ولكني كنت أجده في أيام وكأنما طفح به الكيل، وكأنه هو الآخر قد أدرك ما أدركته، وأحدثه حينئذ عن ضرورة التغيير الجذري فيصغي لحديثي ويطول صمته.
وكنت طوال الوقت أحاول أن أطرد خاطرا مخيفا يحوم حولي، خاطر مخيف حقيقة؛ فقد كنت أحيانا أتساءل: أليس من المحتمل جدا أن يكون البارودي قد قادنا طوال تلك الأعوام في الطريق الخاطئ، الطريق الذي يؤدي إلى أوروبا، ولكنه لا يمكن أن يؤدي إلى بحري أو الصعيد؟
وأعترف أني كنت أخاف أن يكون الخاطر صحيحا؛ إذ معناه أني ضيعت أخطر فترة من حياتي في طريق خاطئ، ومعناه أيضا أن هذا الشخص الذي أكاد أقدسه - البارودي - ممكن أن يكون عبقريا وخطيرا ومعجزة، ولكن حسابه أفلت هذه المرة، وإذا استمررنا وراءه ضاع وضعنا.
وعلى الرغم من أنني أنا وشوقي وكل من كانت تحدثه نفسه بأشياء كهذه من الزملاء كنا نؤجل حكمنا النهائي على تلك الخواطر المخيفة، إلا أن هذه الخواطر كان لها انعكاسها في عملنا. فبدأ حماسنا للعمل يفتر، وبدأنا نغير تغييرات لا إرادية في سياسة المجلة واتجاهاتها، ونبحث فيها بعض مشكلات بلادنا بالطريقة المحلية وباللغة التي يفهمها شعبنا. وبدأنا نردد شعارات أقرب إلى طبيعتنا وروحنا من الشعارات «العالمية» التقليدية المحفوظة.
وفي تلك الظروف عرفت سانتي.
عرفتها واليأس قد وصل بي إلى مرحلة كنت أكاد أقرر كل يوم فيها أن أقطع صلتي بالمجلة وبالمجموعة كلها، وأن أبدأ في البحث عن طريق آخر أكون مقتنعا به وبصحته ومؤمنا بفائدته.
Página desconocida