كان مفروضا أن نلتقي في محطة باب اللوق ويقطع كل منا تذكرة مستقلة، ثم نجلس متجاورين في القطار «صدفة»، ونتحدث وكأننا تعرفنا توا ودون أي تدبير.
وحيث لمحتها قادمة في عصر ذلك اليوم أحسست بأن قلبي دق دقة غير عادية، وأن سخونة قصيرة مفاجئة اجتاحتني وكدت أرتجف لما حدث لي، ولكني تحركت إلى شباك التذاكر وفي جسدي نشوة، وأخذت التذكرة وتلكأت حتى رأتني، ثم انتظرت حتى أصبحت على بعد أمتار مني، ثم ركبت القطار، ووجدت أول عربة مزدحمة فغادرتها إلى ثاني عربة وإلى الثالثة والرابعة، عساي أعثر على مقعدين خاليين متجاورين، بلا فائدة. ووقفت في آخر العربة الأخيرة وأدرت وجهي. كانت قادمة! ومرة أخرى وجدت قلبي يدق والسخونة تغمرني وتتركز في باطن يدي، وسمح لنا ازدحام القطار أن نقف متقابلين ونتحادث، وسمح لنا بأكثر مما كنت أطمع فيه؛ فقد ظللت أتأمل وجهها طوال ساعة لم أرفع عيني عنها، وأدركت كم هو جميل! ولكن جماله لم يكن يعني في انجذابي لها شيئا كثيرا أو قليلا؛ فحتى لو كان أقل جمالا لما اهتزت سرعة انجذابي لها، ولكنه حقيقة كان جميلا جدا، ومعظم اليونانيات - على الأقل معظم اليونانيات المقيمات في مصر - لا يتمتعن بجمال وافر، وما عليك إلا أن تستعرض تلميذات المدرسة اليونانية وهن خارجات، معظمهن عاديات أو كالعاديات، ولكنك حتما ستعثر على واحدة من كل مائة أو ألف، واحدة وكأنها احتكرت جمال المائة أو الألف. كان وجهها صغيرا مستطيلا ليس أكبر من وجه أية تلميذة من تلميذات المدارس ولكنه أبدا ليس وجه تلميذات؛ ففيه جمال السيدات، الجمال الناضج الدقيق الطازج. لون وجهها نفسه يحير العقول؛ فالحمرة فيه حين تختلط بالبياض تصنع لونا مختلفا تماما وكأنه لون جديد لا هو الأحمر أو الأبيض، ولا هو الوردي أو القمحي، لون غريب ممكن أن نسميه لون الحياة لو أمكن أن يكون للحياة لون. وجه حي متفاعل، وعينان سوداوان ذكيتان تريان كل شيء ولا تغفلان عن البادرة حتى لو خطرت البادرة في عقل، عينان لا تكتفيان باستقبال المرئيات ولكنهما دائمتا البحث عن كل ما يرى أو يلمح. وشعر أسود، والشعر الأسود نادر في الأوروبيات، ولكنه كان غزيرا فيها، يجعل وجهها أكثر حمرة وبياضا وحياة، ويجعل عينيها أكثر تأثيرا وأعمق نفاذا.
واعذروني إذا توقفت عند وجهها؛ فمن منا إذا تذكر الوجه الذي لوعه وغير مجرى حياته وأذاقه أحلى ألوان السعادة وأمر الألم، من منا إذا تذكر ذلك الوجه لا يتوقف عنده؟ ومن غيرنا أقدر على تذكره ووصفه وتحديد كل دقيقة من دقائقه؟ وجوه من الجائز جدا أن تكون قد تغيرت وتغضنت أو ملأتها التجاعيد، أو حتى انتهت وصارت ترابا، بل وجوه من المؤكد أنها تغيرت وانطمست معالمها القديمة، ولكن خيالنا وذاكرتنا هي المكان الوحيد الذي لا تزال فيه تلك الوجوه ثابتة على حالها محتفظة بكل ما كان لجمالها من جمال ولأصحابها من إشراق، من غيرنا أقدر على أن يتذكر تلك الوجوه؟
وقفنا في القطار متقابلين وتحادثنا، وكنا نتحادث بهمس خافت لا أدري لماذا؟ بل حتى الاحتياطات المبالغ فيها التي اتخذناها لنلتقي لم أكن أعرف لماذا اتخذناها؟
وكان مفروضا أن ينتهي الحديث قبل المعادي مثلا، فأهبط أنا أو تهبط هي لآخذ أو تأخذ القطار العائد، ولكن المعادي جاءت ولم نكن قد تحدثنا في أي شيء جدي. وحتى بعد المعادي لم نتحدث ذلك الحديث الجدي الذي كان لا يتعدى أن أحدد معها موعدها مع شوقي وينتهي كل شيء، هي أيضا كانت تعلم أن لقائي بها لم يكن له هدف آخر سوى تحديد ذلك الموعد، ولكنها هي أيضا التي مضت تتحدث عن نفسها وعن حبها للموسيقى، وعن أمها المريضة بالأورام الليفية، وكيف يجب أن تجرى لها عملية، وصحتها الضعيفة التي لا تحتمل العملية، حديث غريب لإنسان مفروض أنها لآخر مرة.
وقلت لها: أتعلمين أن هذا هو لقاؤنا الأخير، ومن العجيب أني ما زلت لا أعرف اسمك؟
والواقع أني لم أرد أن أسألها ذلك السؤال لمجرد رغبتي في معرفة اسمها؛ فالاسم مهم لتعرف صاحبه، فإذا عرفت صاحبه لم تعد للاسم تلك الدرجة القصوى من الأهمية. كنت أسألها ذلك السؤال وأنا أعلم تماما أن من الممنوع منعا باتا أن تقول اسمها الحقيقي؛ فالمجلة وجماعة تحرير المستعمرات نفسها كانت تطارد وتقاوم في كل مكان، وأجهزة البوليس السياسي في ذلك الوقت معبأة لتعقب أفرادها ومعرفتهم والنفاذ إلى داخل الجماعة لتحطيمها وتخريب عملها، وأن يتبادل كل منا اسمه الحقيقي مع كل من هب ودب خطأ قد يصل إلى مرتبة الجريمة.
ولكن لا أدري أي هاتف حدا بي أن أتخذ ذلك السؤال مقياسا أعرف به مدى قربها مني ومدى حرصها على إرضائي، ومعرفة ذلك المدى كان شيئا مهما؛ فمع أن إحساسي وشعوري الداخلي كان يؤكد لي أنها لن تمانع في لقائي بعد هذه المرة لو طلبت منها أنا ذلك اللقاء، إلا أنني كنت مثل كل الناس لا أثق تماما في مداركي الغريزية تلك ولا أطمئن إليها. وليتنا نثق فيها دائما ونطمئن إليها.
أحببت أن أختبرها وأعرف مدى استعدادها فسألتها، وحين انتهيت من سؤالي وجدتها تبتسم، والابتسامات ليس لها كلها معنى واحد، يخيل إلي أن كل ابتسامة يبتسمها الإنسان في أية لحظة من حياته تختلف دائما عن أية ابتسامة أخرى. وكل ابتسامة لها معنى، وما أكثر المعاني التي أحببتها في ابتسامتها في تلك المرة! كان فيها خليط ناعم جدا من الدلال والتبغدد، وفرحة الأنثى حين تلمح اهتمام الذكر، وثقة المرأة حين تحس أنها عوملت كامرأة، وأخيرا قشرة سطحية من التردد سببها لا بد هو ذلك العرف المتواضع عليه ألا يذكر أحد اسمه الحقيقي لأي إنسان آخر.
ابتسمت تلك الابتسامة الجامعة وقالت: ولكنك تعرف أن هذا ممنوع.
Página desconocida