أحيانا أفكر في العمل كطبيب باخرة، وأحيانا أفكر في السفر إلى السودان أو الكويت، وأحيانا أتمنى لو تركت المهنة نهائيا والتحقت بكلية الآداب. ما من يوم كان يمر علي إلا وتنتابني أفكار كتلك. لا بد أن هناك حياة أخرى أروع من حياتي تلك، لا بد أني لو أخذت قرارا حاسما وغيرت عملي سيحدث لحياتي تغيير ضخم وتتفتح الآفاق أمامي. وأسخف ما فينا أننا دائما نفكر بطريقة ونحيا بطريقة أخرى، ونثور على طريقة حياتنا ومع ذلك نظل نحياها وبنفس الطريقة. أسخف ما فينا هو ركوننا إلى العادة، العادة المملة الرتيبة التي تترسب كبرادة الحديد في مادتنا الحية فتحيل سيولتها المشبعة بالحركة والنشاط إلى جمود وتبلد وسكون. والعادة تلك هي التي كانت تتولى القضاء على خططي ومشاريعي، أصحو من نومي فإذا بي أرتدي ملابسي بسرعة وقلبي يدق خوفا من التأخير، كالمنوم آخذ طريقي الورش وقد نسيت كل شيء عن الأحلام الهائلة التي راودتني جزءا كبيرا من الليل.
وفي لحظة كتلك قررت أن أسمع كلام عنتر وأنا أقنع نفسي بأني بهذا قد أغير حياتي.
وحدث واشتريت العيادة، وكل ما دفعته ثمنا لها وإيجارا لشهر كامل خمسة عشر جنيها، أخذها عنتر وعدها مرارا أمامي وهو «يستشوي» المبلغ علنا أمامي، وإن كان بينه وبين نفسه يعتقد أنه ضحك علي.
وبمساعدة زملاء عنتر من العمال أصلحناها ودهناها بالزيت، واشتريت لها بعض الأثاث، وطمس خطاط الورشة اسم الدكتور «عطوة البرادعي» وكتب اسمي على اليافطة التي كان لا يقل طولها عن سبعة أمتار، وحين ذهبت إلى العيادة ووجدت اليافطة مركونة إلى الحائط والخطاط يضيف إليها لمساته الأخيرة، وبعض الصبية والمارة من الرجال والنساء واقفون غير بعيد يراقبون ويتهامسون، أحسست بخجل شديد، وكنت في أوائل معرفتي بسانتي. ولأمر ما تصورتها وقد جاءت في تلك اللحظة ووقفت تتفرج هي الأخرى على اسمي (يحيى مصطفى طه) وهو يمتد مسافة سبعة أمتار وتحته عشرات الألقاب التي لا معنى لها: طبيب امتياز بقصر العيني، وبين قوسين سابقا. حكيمباشي مستشفى الأمراض المتوطنة بوزارة الصحة، وبين قوسين سابقا. والمضحك في مسألة الحكيمباشي هذه أن الحكاية كلها أني بعد أن قضيت سنة امتياز اشتغلت في مستشفى بلهارسيا وأنكلستوما متنقل، ولأني كنت هناك الطبيب الوحيد فليس هناك مانع أن أعطي نفسي الحق في أن أكون حكيمباشي على نفسي خاصة وكل زملائنا الأطباء كانوا يفعلون هذا. تصورت سانتي ترى هذا وترى الثلاث الطوبات التي تكون اسمي وقد أصبحت ثلاث دبشات كبيرة، وأروح في غيابات خجل لا قرار لها.
وأخيرا بدأت العمل في العيادة، والزيت لا يزال طريا، ورائحته تملأ الحجرتين الضيقتين والصالة الصغيرة، وأنا حائر كيف أعامل الزبائن. أجرب نفسي أمام المرآة التي خلفها الدكتور عطوة وأتحدث وأبتسم. وأفعل هذا وكأني لم أتعود الكشف على أحد أو استقباله، مع أني كنت قد عملت في الحكومة سنوات وقابلت آلاف المرضى. ولكن الزملاء الأطباء كانوا قد علمونا أنه إذا كان المريض في مستشفيات الحكومة عبدا، فهو في العيادة السيد المدلل، وعلى الطبيب الذي يريد أن يكسب الأجر والزبائن ويقتني العربات ويبني العمارات أن يتعلم كيف يعامل المرضى في عيادته معاملة هدفها كسب قلوبهم، كخطوة أولى لكسب ما في جيوبهم. والابتسامة الأولى التي يرتديها الطبيب كما يرتدي معطفه الأبيض، ويعلقها على ملامحه كما يعلق السماعة ليقابل بها الزبائن مهمة؛ فلا بد أن تكون حاوية لأشياء كثيرة؛ الأدب وطيبة القلب وكبرياء المهنة وتواضع العلماء.
أجرب نفسي أمام المرآة وأجدها ابتسامة عسيرة، وألعن نفسي لهذا الزيف. أشك في التومرجي الذي كان يتولى إعطاء الحقن (ومعظم إيراد العيادة كان يأتي من الحقن التي يحضر المرضى لأخذها وقد وصفها لهم الأطباء الكبار والمشهورون). وأفعل هذا كله وفي ظني أن العيادة حين تعمل وأبدأ أشفي المرضى والجرحى وأداويهم سيتغير كل شيء، وستتغير نظرتي إلى العالم، وقطعا سيتغير طعم حياتي في فمي.
وشيئا فشيئا بدأت أعمل، وبدأ الزبائن يقبلون متعثرين، وبعضهم كان يسأل عن الدكتور عطوة، وحين يعرف أنه ترك العيادة يصاب بخيبة أمل شديدة ويلح في طلب عنوانه الجديد. وأعجب أنا كيف استطاع عطوة بكحته وبصقاته وأفيونه أن يحظى بثقة مريض يتكلم عنه كما لو كان يتكلم عن أبو قراط أو جالينوس! ولكني بدأت أعمل، وبدأ الأجزجي صاحب الصيدلية المجاورة يتحدث عني، ويختلف الناس في القهوة القريبة على مدى شطارتي وخفة يدي ووزن دمي وأخلاقي.
ولم يتغير طعم حياتي بالعيادة. كل ما حدث أن أضيف إلى وجوهها المتعدة وجه آخر، وجه جديد له مشاكله وأحزانه وأفراحه ووقته المحدد الذي لا يحتمل أي تأجيل. أعود إلى البيت في الظهر وعقلي صفحة مضطربة مظلمة، وألهف الطعام الماسخ بسرعة خاطفة استعدادا للنوم أو لمجيء سانتي، فإذا نمت استيقظت في الخامسة والنصف محمر العينين، في رأسي نوم كثير لم يشف غليله بعد. وأرتشف الشاي الذي لا بد منه في جرعات كبيرة خاطفة لاسعة، ثم أجري إلى العيادة . كانت في الدور الأرضي، وجدرانها والجدران المؤدية إليها حافلة بالرطوبة والرشح، والمنزل لا يشجع أحدا على الدخول، واليافطة الضخمة كبيرة كيافطة الأوكازيونات، وأناس كثيرون أحييهم وأنا في الطريق، وعنتر لا بد أن ينتظرني كل يوم عند قمة الشارع وبجواره عبلة، طويلا رفيعا غامق السمرة كبندقية ذات ماسورة واحدة معلقة في كتف عنتر، وبكل هليهليته يجري عنتر بجواري وأنا مندفع في طريقي إلى العيادة، ويقرصني في يدي وهو يشير إلى الناس: ده فلان، وكأني أعرفه، وده قريب شيخ الحارة، والرجل ده ينفعنا قوي، وشايف حاطط رجل على رجل ده؟ ده الناس بتسمع كلامه لما يجيلك ابقى اتوصى في الكشف، أيوه اسمع كلامي بس!
وأسمع كلامه وأهز رأسي وأنا لا أدري أهو ينصحني لنفسي أم ليضمن إيجاره.
وندخل العيادة معا، ونادرا ما كنا نجد فيها منتظرين، ويجلس معي في حجرة الكشف، ولا بد أن يجد موضوعا ما يحدثني فيه. وأحب المواضيع إليه كان حديثه عن خلافاته مع أخواته البنات حول الميراث وحول هذا البيت بالذات، ثم يقطع حديثه فجأة ويقول: ما تياالله نزور الأجزجي.
Página desconocida