ماذا أقول لكم؟
يخيل لي أن ما من امرأة قابلت رجلا وما من رجل قابل امرأة إلا وسأل كل منهما نفسه: ترى هل يصلح الآخر لي؟ ما من امرأة وما من رجل، وفي كل مراحل العمر، قبل الزواج وبعده، في عنفوان الصبا وذبول الشيخوخة. سؤال يدور في عقول الآباء في نفس الوقت الذي يدور فيه في عقول الأبناء! عملية بحث دائبة مستمرة عن الطرف الآخر في تلك اللعبة الخطرة التي يسمونها الحب.
لست أبالغ ولا أتجنى؛ إذ في أغلب الأحوال يأتي الجواب رفضا ونفيا، وفي أحيان قليلة يظل يتأرجح بين النفي والإثبات، وفي أحيان نادرة - نادرة جدا - يأتي الجواب أن نعم، هذا هو أو تلك هي من أريد.
أنا أيضا حين قابلت «سانتي» قلت هذا، كان ذلك في مطعم «الباريزيانا» الذي لم يغيره الزمن، وكان سبب اللقاء عاديا جدا في نظري، أزاول مثله كل يوم من أيامي عشرات المرات. كان لي، ولا يزال، صديق اسمه صبحي يعمل مندوب دعاية، أو كما تعودنا أن نسميه «بروبا جاندست» لإحدى شركات الأدوية، وكانت له اتصالات واسعة بالأجانب والمصريين، لا بحكم عمله ولكن لأنه هو شخصيا من ذلك الصنف من الناس الذي لا يحيا ولا يتنفس ولا يتحرك إلا إذا تعرف كل يوم بأناس جدد، وعرف أناسا بأناس. قال لي ذات مرة إن هناك فتاتين: إحداهما يونانية والأخرى فرنسية أو من أصل فرنسي، وإنهما تريدان العمل معنا في المجلة وتقديم أية مساعدة يمكنهما تقديمها. ولا أعرف لماذا لم ألق للأمر اهتماما كبيرا أول ما قال لي، ربما لأني لم آخذ كلامه مأخذا جادا، وربما لأنه كان كلما قابلني حدثني عن أشياء يريد تقديمها للمجلة ولا يقدم شيئا بالمرة، ولكني قابلته بعد هذا مرة أو مرتين، وفي كل مرة يسألني متى يمكن أن يعرفني بالفتاتين، وأدركت حينئذ أن كلامه قد يكون صحيحا على عكس ما تعودنا من كلامه، وربما لو كان قد قال إن الفتاتين «بنات عرب» لما احتفلت بالأمر ذلك الاحتفال؛ إذ لست أدري سر ذلك الضعف الذي نكنه، نحن أولاد العرب، للخواجات، وللنساء منهن بالذات. المهم رحبت بالمهمة وسألته بضعة أسئلة لأتأكد أن ما يقوله حقيقي، ولأحاول أن أكون عنهما فكرة قبل أن ألقاهما، وحددت معه موعدا في «الباريزيانا» يعرفني بالفتاتين فيه، وأظنه كان الثالثة بعد ظهر يوم من أيام الشتاء.
ما زلت أذكر ذلك اليوم كأنه اليوم، كنت أرتدي معطفا رماديا اشتريته - أول معطف في حياتي ارتديته - وكنت مسرعا؛ إذ كان الميعاد قد أزف ومضت بعده دقائق. ومع هذا ورغم نسمات العصر الشتوية والوقت الضيق فقد رحت أسأل نفسي ذلك السؤال: ترى هل تصلح واحدة منهما أو الاثنتان لأحبهما؟ وهل تقع إحداهما في غرامي؟ وهل يكون لي معها قصة؟ وكنت أسأل نفسي تلك الأسئلة مع علمي التام أنها أسئلة لا يصح إلقاؤها أو التفكير فيها؛ فالعمل الذي نقوم به جاد وخطير وليس فيه أي مكان أو فسحة للحب وللغرام. كنا في عنفوان معركة الاستقلال، ومجلتنا تخوض حربا لا هوادة فيها لإعداد الشعب للمعركة، ولا مجال للعاملين فيها للتفكير في غير العمل والكفاح. كل شيء يجري وكأنها الخطة لجيش محكمة، وكل شيء ينفذ وكأننا في خط النار، والمعركة ضد الاستعمار قائمة في كل مكان، في السودان ومصر وسوريا والبلاد العربية وشمال أفريقيا وقبرص وفي كل مكان. ولجماعتنا أنصار وأعضاء في كل قطر من هذه الأقطار، والمجلة تصدر في القاهرة ويتردد صداها في كل عاصمة من عواصم الشرق الأوسط. كنت أعرف هذا كله، ولكني هنا أقول الحقيقة؛ فالحقيقة يصح قولها دائما، بل دائما لا بد من قولها. والحقيقة أننا حين نفكر بيننا وبين أنفسنا لا نفكر فيما يصح وما لا يصح، إننا نفكر فقط فيما نريده، نفكر بكل جرأة، بل أحيانا بوقاحة ولا يهمنا شيء. إننا فقط حين يأتي دور التنفيذ نبصر العقبات الاجتماعية القائمة، وحينئذ نبدأ نتراجع أو نبدأ نلف وندور حول العقبات كوسيلة للتغلب عليها. بيننا وبين أنفسنا لا نعد العقبات الاجتماعية مقدسات، إننا نعدها عقبات فقط، ولعل هذا هو سر تقديسنا لها أمام الناس. وليس معنى أنني كنت أفكر في كل هذا وأنا في طريقي إلى الموعد أني كنت أفاقا أو وغدا، لأني كنت أفكر في مطامحي الخاصة؛ فالواقع أني كنت أفعل هذا بجزء صغير من نفسي، أما أجزاؤها الأخرى الكبرى فكانت مشغولة تماما بالمجلة وبالواجبات وبالعمل الذي كنت أقوم به في منتهى الجد والنشاط، هذا شيء وذلك شيء آخر مختلف، والإنسان يفعل الشيئين، وربما يفعل الشيئين لأنه إنسان.
دخلت المطعم وأنا أبحث بعيني عن صبحي لأطمئن أولا إلى وجوده (فقد كنت لا أزال معتقدا أن كلامه قد لا يصفى على الربع)، وبالتالي لأطمئن على وجود الفتاتين، وأخيرا لآخذ فكرة عن شكلهما من بعيد؛ إذ كان السؤال لا يزال قلقا في جوفي يريد جوابا: ترى هل تصلح إحداهما لي؟
ووجدت صبحي فعلا، ولدهشتي وجدت أنه، حقيقة، صادق هذه المرة؛ فقد كانت تجلس إلى جواره فتاتان، إحداهما ضخمة كبيرة، والأخرى صغيرة بيضاء مشرب بياضها بحمرة، واتجهت إلى المنضدة التي يجلسون عليها وسلمت، وتلعثمت وأنا أفعل هذا وصبحي يقدمني إليهما وكأني خجلت مما كنت تركت لنفسي حرية التفكير فيه. وجلست وطلبت قهوة، وفعلت هذا كله دون أن أجرؤ على رفع عيني أو إلقاء نظرة قريبة على الفتاتين.
وبعد أقل من دقيقة قامت الضخمة مستأذنة تاركة أمر تحديد كل شيء لزميلتها التي كانت جالسة تبتسم باستمرار ولا تتكلم. وجلس معنا صبحي هنيهة ثم لم يلبث هو الآخر أن سلم وانصرف.
وبقيت معها.
وأقول بقيت معها لأنني منذ الوهلة الأولى كنت قد تأكدت أنها هي؛ هي التي أردتها دائما دون أن أعثر عليها، هي التي بحثت عنها في كل فتاة أو امرأة قابلتها ولم أجدها، بالضبط هي بكل ما أحب في النساء فيها، وكيف أقول هذا وأفسره؟ أأقول إن من نظراتي الأولى لها كنت قد قررت أنها لي طال الزمن أو قصر، شاءت الظروف أم لم تشأ، ماذا أقول؟ هل أقول إنني منذ الوهلة الأولى كدت أخمن قصتنا معا، كأن أنوارا كاشفة قد أضاءت كل ما سوف يقبل من أحداث لجزء من الثانية، ثم انطفأت الأنوار؟
Página desconocida