وتبدأ التمثيلية.
يدخل العامل ويرفع يده بسلام عظيم وتحية زائفة لا يكلف نفسه عناء إخفاء ما فيها من ملق. عندك إيه؟ عندي إسهال. وبعده عندك إيه؟ مغص.
إسهال، مغص، مشوار، ح أطلق مراتي، ابني ضايع وعايز أدور عليه والنبي، خربتي مقسومة نصين من امبارح، أبويا توفى تعيش انت.
وأول ما عينت في تلك الوظيفة وكنت لا أزال حديث التخرج، ولا تزال لجنة الطلبة والعمال التي كانت تقود الكفاح ضد المفاوضات ماثلة في ذهني، والعمال الذين كانوا يأتون إلى الجامعة بعفاريتهم الزرقاء والصفراء ونعقد معهم المؤتمرات ونتفق على الإضرابات، حماسي لهم لا يزال على أشده. لم أكن أتردد، كنت أمنحهم كل ما يريدون من إجازات، وكنت أعتقد أني استوليت على قلوبهم بذلك العمل البطولي. ولكن أبدا، كل ما حدث أنهم كفوا عن رجواتهم وملقهم السافر الساخر، وأصبح الواحد منهم يدخل ويقول: أنا عايز يومين، أنا عايز ثلاثة، دون أن يكلف نفسه عناء الشكوى من مرض، ويطلب هذا وكأنه حقه. فإذا أعطيته ابتسم لي ابتسامة لا تخلو من سخرية، وإذا لم أعطه تلحم وكشر وأقسم ألا يغادر مكانه إلا بالإجازة. ولكن تلك التصرفات لم تفت في عضدي وظللت أمنحهم كل ما يريدون، إلى أن حدث يوم وكان يوما ممطرا وتأخر أكثر من نصف عمال الورشة، وأبلغوا أنهم مرضى، وكالعادة منحتهم إجازات، وكانت النتيجة أن توقف العمل في الورشة وأبلغت الجهات المسئولة، وجاء مدير القسم الطبي وراجع دفتر الإجازات وروع حين وجد أن أكثر من خمسمائة عامل لديهم إسهال، و200 أنفلونزا، وظل يقلب الدفتر ويقول بصوته الأخنف: إيه ده يا دكتور؟ دا انت عندك كوليرا في الورشة! لما 500 يبقى عندهم إسهال لازم البلد تنقلب.
وخصم مني ثلاثة أيام وأنذرت بالفصل، ولم يتحرك أحد لا من النقابة ولا من العمال لما حدث، وكأن الأمر لم يكن بسببهم.
وهكذا وجدت نفسي مضطرا أن أدقق وأوازن وأمنح البعض وأعيد البعض، وأضيق بالعمل كله، وبنفسي حين أمنح وبها حين أرفض، وبالعمال إذا رضوا وإذا سخطوا، أو على حد تعبير العمال أصبحت المسألة مسألة مزاج.
والأربعة أو الخمسة الذين يدخلون حجرة الكشف في أول الطابور كان يقع عليهم عبء تحديد مزاجي، إذا منحتهم إجازات سرت في الطابور الضخم الملتوي كحيوان من حيوانات ما قبل التاريخ، سرت فيه موجة تفاؤل وفرح، وإذا لم أعطهم سرت همهمة غضب مكتوم وأفلتت الألسن شتائم.
وجربت كل الطرق ولكني انتهيت إلى نتيجة واحدة؛ أن هؤلاء العمال لا يمكن إذا أرادوا شيئا إلا أن ينالوه، سواء كنت راغبا في إعطائه أو مصمما على منعه. كان عنادهم وتصميمهم يغل عنادي وتصميمي، وقراري الحاسم يبريه إلحاحهم القوي المتواصل. كنت لا أكاد أميزهم من بعضهم البعض، نفس الوجوه ونفس النظرات ونفس المنطق، ولم أكن أستطيع أن آخذهم فرادى، إذا عجز منطق الواحد تصدى له آخر، وإذا ما شخطت في واحد دمدم له الآخرون، وأحس دائما أن تفاهما خفيا يسري بينهم كالأسلاك غير المرئية، ويربط أجزاء ذلك الطابور الطويل المتحرك صوبي، الكلمة أقولها في المكتب فإذا بها بعد ثانية قد أصبحت في حوش الورشة وفي العنابر، وأناقش الواحد فيتدخل الآخرون كالعصابة المتفاهمة قبلا والتي وزعت على نفسها الأدوار: واحد يناقش، والثاني يهدد، والثالث يصرخ، والرابع يستصرخ الحكومة، والخامس يتشنج، والسادس يشتم ، والسابع يرجو، والثامن يبتسم في هدوء وبراءة وكأنه تأكد أنك اهتززت بكل ما سمعته وأنك على أهبة القبول، فيقول لك ليكفيك مئونة الحرج: على العموم أنت صاحب الأمر والنهي، اللي تعمله ماشي.
وبتلك الطريقة انتهى عملي كطبيب إلى أن أصبحت مساوما من الدرجة الأولى، العامل يريد خمسة أيام فأساومه لأمنحه ثلاثة، وبعد أن تطلع روحي ويضيق خلقي وأنفاسي لا يقبل الأربعة إلا وهو يشعرني أني ظلمته وجرت عليه، بل أحيانا كانت المساومات والرجوات تظل تلاحقني في الشارع حتى إلى باب شقتي.
وكنت أغادر العمل في الثانية بعد الظهر ورأسي قد أصبح عنابر وشوارع وحارات، وأيدي تلوح وزعيقا ومناكفات وتهديدات ورجوات ومغصا كلويا أيمن وآلاما روماتيزمية بالمفاصل وضعفا عاما، وعفاريت ملطخة بالدوكو والزيت وخبطات كثيرة على المكتب وتشنجات عصبية ورغبة عارمة تراودني أن أنتحر أو أقتل أول إنسان أصادفه.
Página desconocida