20
وبكل هدوء وبلا ضجة استغراب أو احتجاج، وكأن الدلائل كلها كانت أو تشير إلى احتمال وقوعه، تقبلت ما حدث في اليوم التالي لذلك الاجتماع العاصف. كنت قد نمت على أمل أن أفكر في الغد، وجاء الغد بمشاغل العمل التي تتولى غسل المخ بكل ما فيه من خيالات وحقائق. وبعد الظهر جاءني شوقي، جادا قليلا على غير العادة، وفي ختام حديثه معي أبلغني بطريقة عابرة أن مجلس التحرير قد أصدر قرارا يقضي بمنع سانتي من المجيء إلى بيتي، وكذلك يأمرني بعدم الاتصال بها. اصطنعت الدهشة الغاضبة وأنا أحاول أن أجادل في أسباب القرار وجدواه، وأخذت أردد ألفاظا جوفاء كثيرة لا معنى لها لا لرغبة حقيقية في الجدل وإنما لكي يبدو موقفي طبيعيا، غير أن شوقي قال بملامح غائمة: ولماذا تحتج والمسألة لا تعدو أن تكون إجراء وقائيا هدفه حمايتك وحمايتها؟
قلت له وكأني أحدث نفسي: إذا كان الهدف الأمان فهم أحرار في اتخاذه، أما لو كان الهدف شيئا آخر ...
وأكملت بقية الجملة تحديقا في ملامح شوقي لعلي ألمح الأسباب الحقيقية التي دعتهم لإصدار القرار، تراهم عرفوا، تراهم خمنوا، وإلى أي مدى بلغت بهم المعرفة أو التخمين؟ كنت أدرك أن البارودي وراء القرار لا شك، وأدرك أكثر أن الأسباب التي دعته كي يوقفني وجها لوجه أمام هذا الإجراء «الرسمي» أسباب لا تمت إلى البراءة بصلة، ولكني لم أجد في ملامح شوقي أية علامات تدل على انفعال حقيقي، لا غضب ولا لوم ولا برود، ترى أهو قناع يغطي به وجهه وخواطره؟ أم إني أبالغ وأتصور وأجري وراء مبالغاتي وتصوراتي؟
وعجبت! لم أعجب منه، ولكن عجبت من نفسي، طوال علاقتي الخفية بسانتي كان أخوف ما أخافه أن يعرف شوقي أو البارودي أو أي من الآخرين ما يدور بيني وبينها. وهذا القرار يدل بشكل قاطع على أنهم حتى إذا لم يكونوا قد عرفوا، فثمة رائحة لا بد قد تسربت وكشفت عن وجود موضوع . فلماذا لا أحس بالخجل الشديد الذي كنت أتصور أني لا بد سأشنق نفسي لأتلافاه؟ أغرب من هذا، لماذا أحس بالراحة وكأن عبئا قد انزاح عن كاهلي، وغيري هو الذي تولى مهمة إزاحته؟ لا أظن أني لحظتها عرفت الإجابة على وجه الدقة، وحتى إلى الآن، ولكن يخيل إلي أن ما من شيء نفعله من وراء ظهور الآخرين ونخاف خوف الموت أن يعرفوه، إلا ونحن نتمنى في نفس الوقت لو يحدث ما يجعلهم يعرفونه ويعاملوننا على أساسه.
أحسست بنوع حرام من الراحة، ولكني لم أستمتع به؛ ففي الحال تذكرت سانتي ولم يلبث قلقي عليها أن اكتسح أمامه كل شعور آخر، فإذا كان كشف الأمر سيريحني فهو حتما سيسبب لها المتاعب، سألت شوقي إن كانوا قد أبلغوها القرار فأجابني أنهم لم يفعلوا بعد، وأنه هو شخصيا مكلف بإبلاغها إياه.
ورغما عني وجدت نفسي - بغضب حقيقي هذه المرة - أحذره بكل ما أملك من قدرة على التأكيد والتهديد من مغبة أن تلمح سانتي من كلامه أو طريقة إبلاغه أية بادرة تدل على محمل آخر للقرار. وبغير انفعال أو تأثر طمأنني شوقي، ومن لهجته ازداد يقيني؛ إذ لم يبد عليه أنه دهش لانزعاجي أو تهديدي وكأنه كان يتوقع أن أنزعج وأهدد. لا بد أنهم فعلا أصدروا القرار بهدف مبيت آخر، ولأسباب أكثر استخفاء من قصة الأمن التي ما عدت أصدقها.
ولم يمكث شوقي طويلا؛ فمنذ أن جاء لم يكن باديا عليه أية رغبة من إطالة الحديث أو الزيارة، وكأنما قد جاء خصيصا ليبلغني بطريقة مخففة مهذبة ذلك القرار.
وللحظة واحدة، وأنا أشد على يد شوقي مودعا، عشت في أمنية بدت عريضة كالحلم العريض، خاطفة كبارقة الأمل، أن تكون النهاية في هذا القرار، أن يكون الخاتمة للمأساة المعقدة التي عذبتني وللمرض الطويل، أجل المرض الذي أخذت في تلمس الشفاء منه، ولعلي لهذا استرحت لأنهم عرفوا؛ فقد كنت دائما أتخيل النهاية حين يعرف الموضوع وتصبح العلاقة أمرا علنيا مشينا، بعدها قطعا سأثوب إلى نفسي وتهبط حوافزي كلها وتخمد النيران.
ولكنها لحظة واحدة؛ ففي اللحظة التالية مباشرة بعد اختفاء شوقي كانت ابتسامة غريبة تعلو وجهي؛ إذ الخاطر الذي تملكني كان شيطانيا غريبا، النقيض تماما للخاطر الأول؛ فما كادت الصدمة وكل ما خلفه القرار في نفسي من انفعالات تتلاشى حتى وجدتني سعيدا بالقرار سعادة خفية حقيقية؛ فمنذ اليوم الذي بدأ فيه البارودي يلاحظ تردد سانتي ويشير إشارات مبهمة ساخرة إلى هذا المجيء، ومنذ بدأت راقية وشوقي والأصدقاء يرونها ويصبح مجيئها أمرا علنيا يعرفه الجميع، بدأت أشياء تحدث في نفسي وتجعلني لا أعود أرضى أو أعجب بتلك العلاقة التي أصبحت علنية. فحتى لو بقي ما يدور بيني وبينها سرا لا يعرفه أحد، فمجرد أن يرانا الناس معا، مجرد أن أوجد معها في مكان يحتوي أحدا غيرنا، مجرد إحساسي أن طرفا ثالثا قد أصبح له وجود في علاقتنا مهما بلغت تفاهة هذا الوجود، كفيل بأن يفقدني الحماس للعلاقة التي أردت لها دائما وعملت أن تظل خفية متناهية الخفاء، تكاد الروعة كلها تتجسد في سريتها. والآن وبعد ذلك القرار، فأية علاقة مقبلة بيني وبينها لن تكون إلا في الخفاء، لن تكون إلا كما أردتها دائما خفية وسرية ومتكتمة ورائعة الروعة كلها من أجل ذلك كله.
Página desconocida