وحين جاء شوقي بعد الظهر ناقشنا المشكلة، وقررنا أن ينتقل ليقيم مع عطوة في بيته، وخرجا سويا وشيعتهما إلى الباب وأنا أحس بارتياح عميق؛ فرغم كل ما فعلته ودبرته كان يخيل إلي في أحيان أن مغادرة البارودي للبيت مسألة مستحيلة، وإذا حدثت فلا بد أن تتم بمعجزة.
وعدت إلى العائلة الصغيرة، أمي وأختي الكبرى محاسن وأخي صفوت وعواطف الصغرى، وتحدثنا، وتأملوني كعادتهم، وتأملوا صحتي وشقتي، وما استحدثته فيها من تغيير، وفرجتهم على المعرض، وأدخلتهم السينما وتعشينا، وكنت أفعل هذا كله من وراء نفسي؛ إذ كنت أفتش عن ذرة رغبة واحدة تدفعني لكي أفعل ما فعلت دون جدوى. كنت طوال الوقت معهم وطوال الوقت أتمنى لو انتهت زيارتهم فورا لكي يصبح في استطاعتي أن أقابل سانتي.
وحين عن لهم أن يقضوا يوما آخر بدأت تصرفاتي معهم يشوبها نوع من الجفوة كانت تصدر مني رغما عني، وأؤنب لها نفسي كثيرا، ولكني لا أملك منعها ولا التحكم فيها. ويبدو أنهم أحسوها أخيرا؛ ففي اليوم الثالث وجدتهم يوقظونني في الفجر، وحين صحوت وجدتهم جمعوا حوائجهم وارتدوا ثيابهم وإن كان النوم لا يزال يملأ عيون الصغيرة عواطف. كانوا قد تهيئوا للعودة ولم يبق إلا أن يسلموا علي. وقلت كلاما فاترا سخيفا كثيرا عن ضرورة بقائهم أياما أخرى، وأن هذا لا يصح، وأقسمت عشرات الأيمانات آمرهم بها أن يلغوا مشروع السفر و... و... إلخ هذه الأقوال الجوفاء التي نرددها في لحظات كتلك ولا نعني بها شيئا؛ فقد كنت في قرارة نفسي أتمنى ألا يتراجعوا وأن يظلوا ماضين في مشروع السفر إلى نهايته.
ولم يتراجعوا، سلموا علي وهبطوا في السلالم شبه المظلمة وهبطت معهم لأوصلهم إلى التاكسي وأنا أؤنب نفسي تأنيبا حادا مريرا؛ إذ لا أجد لدي أدنى رغبة أو إرادة تدفعني لتوصيلهم للمحطة.
وحين ركبوا العربة، ومضت ولم أعد أرى منهم سوى أيد خارجة من النوافذ تلوح ووجوه تطل علي من خلال الزجاج الخلفي وتلمع عيونهم ببريق الوداع الخافت، أحسست أني أريد أن أبكي، وأني مجرم عاق، وأني أستحق كل ما يحدث لي من عذابات ومشاكل.
وعدت إلى البيت وضميري والدموع لا ترحمني، ضميري يكاد يخنقني والدموع تحتبس في حلقي وتطبق علي، أما في قلبي فقد كنت أحس بفرحة كبرى؛ إذ في ذلك اليوم بالذات، اليوم الذي يبدأ بنفس ذلك الصباح المبكر الجميل، سأرى سانتي وألقاها وتجلس معي، وحتما سأعود أحدق في عينيها المشعتين بأروع ما في الدنيا، بروحها.
ولم أكن أعلم من أين جاءني ذلك الشعور بأني سألقاها؛ فلم يكن بيننا موعد، ولم تكن لدي طريقة للاتصال بها، حتى عملها لم أكن أعرفه، كل ما يربطني بها هو رغبتها في أن تأتي إلي.
عدت إلى الفراش أحاول أن أعود إلى النوم، ولكني لم أستطع، كانت الساعة تقترب من السادسة صباحا، ولكي أقابلها في كامل قواي العقلية والنفسية بعد الظهر، فلا بد أن أكون قد نمت نوما عميقا، وأنا قد أويت إلى الفراش متأخرا في الثالثة أو الرابعة، ولم أنم سوى ساعتين. عبثا حاولت أن أرغم نفسي على النوم، ووجدت نفسي أعود وأرتدي ملابسي وأغادر البيت وآخذ طريقي إلى النيل.
كانت الشوارع خالية أو تكاد، وأنوار مصابيحها مطفأة، والأتوبيسات قليلة ونادرة ونورها مضيء، والسكون مطبق لا تقطعه سوى قلقلة من هنا أو هناك لعربة كارو قادمة حاملة الخضار إلى المدينة النائمة، والنسمات طازجة لم يستنشقها أحد بعد، نسمات يوم جديد، يوم تخلصت فيه من كل ما كان يعوق لقائي لها، ويوم أنا حر فيه لأراها. يا إلهي! حريتي تضاءلت؛ فلم أعد أريدها لأسافر أو أكتب أو أتكلم، أريدها فقط من أجل أن ألقاها، وأنا الذي اعتبرت في لحظة ما أن حبي لها يقيدني، وسخطت على هذا القيد وأردت تحطيمه وتحرير نفسي، أين أنا الآن؟ ها هي ذي سعادتي الكبرى أن أصبح حرا في تقييد نفسي بها. لا بد أننا كائنات معقدة جدا، أكثر تعقيدا من كل تلك النفوس المبسطة المسطحة التي نراها ونقرأ عنها في الروايات والكتب؛ فهناك نلتقي بالعواطف والانفعالات وقد استخرجت ونقيت وصنعت منها كتل ضخمة ظاهرة للعيان، وما أبعد هذا عن نفوسنا وهي دائرة في تلك الحياة! ما أبعد هذا عنها وهي حس في اللحظة الواحدة بعشرات العواطف وتتجاذبها عشرات النوازع، وتصدق وتخدع وتمر وتشف وكل ذلك في لحظة، الحب! ها أنا ذا وأنا سائر على شاطئ النيل أتنفس بعمق، وأحب الصبح الباكر والنهر الدافق الممتد وطقطقة العجلات في عربات الكارو من بعيد، ونداءات باعة الفول، وصوصوة العصافير، أجد الكون كله مملوءا بكلمة ضخمة، كلمة حروفها كل الكائنات والأشياء، كلمة «أحبها» وليست كلمة صافية، إنها كلمة معقدة مركبة كالكلمة حين نكتبها ونعيد الكتابة فوقها، كلمات بعضها فوق بعض، كلمات مثل: أنا سعيد بحبي لها، لا بد من قطع علاقتي بها الآن، ليس قليلا أن أهب عمري كله لكي أحبها، لا يجب علي أن أراها، أنا مشتاق إليها، أنا أحبها لأني أحس أنها لا تحبني، أنا أحبها لأنها تحبني، كلمات بعضها فوق بعض تكاد من تعقيد تركيبها أن تطمس، ولكنها تكون بتعقيدها تلك الحقيقة الكبرى التي تجعلني سعيدا بالصباح الباكر، سعيدا بأني حي أعيش هذه اللحظات، سعيدا لأنه في مكان ما من تلك المدينة الكبيرة لي فتاة اسمها سانتي، إنسانة دقيقة صغيرة هائلة، في مكان ما من تلك المدينة الكبيرة لي حبيبة.
ظللت أمشي حتى تعدت الساعة الثامنة وأشرقت الشمس، أشاهد كل شيء وأحس به جميلا من غير أن أراه؛ إذ في الواقع لم أكن أرى شيئا بذاته أو لذاته. كانت سانتي هي أجمل ما كنت أراه في أي شيء، كلما أحسست بالجمال في الماء أو الشمس أحسست بها، وكلما أحسست بها رأيت الجمال فيما أنظر إليه ولو كنت أحدق لحظتها في أقبح الأشياء.
Página desconocida