ولم يكن صعبا أن أعرفها وتعرفني؛ فالطبيب الذي يعمل بالمستوصف كان زميلي، وكنت أحيانا أزوره وأراها في أثناء الزيارات، والأطباء الشبان لهم طريقة خاصة مجربة في التفاهم مع الممرضات والحكيمات، ولهم خبرة في بدء الحديث بالكلام عن السينما والأفلام وإنهائه بقرصة في الخد أو زغدة في الكتف. ودائما ليس لدى الممرضات مانع طالما هن بنات لم يتزوجن بعد، وما دام الطبيب المعاكس شابا لم يتزوج هو الآخر؛ فحلم الواحدة منهن الدائم أن تتزوج من طبيب.
ولا أعرف لماذا كنت أداعبها كلما قابلتها على السلم، كل ما أذكره عنها هو وجهها المنتفخ الأحمر وعيناها الصغيرتان السوداوان، وحب الشباب بالذات في وجهها. حب الشباب كان يقف حائلا بيني وبين استلطافها كلية، والمشغوليات الكثيرة ودوامة العمل كانت تمتص كل طاقاتي بما فيها تلك الطاقة الكامنة فينا التي تدفعنا لمناوشة الجنس الآخر أنى وجدناه.
وإذا كانت مشغولياتي قد حالت بيني وبينها، فيبدو أنها هي التي تفرغت لي وعرفت عني كل ما تريد معرفته من أم الطلبة أم عمر، بل لا بد أنها كانت تراقب زواري مراقبة دقيقة.
يومها أكملت صعود السلم وكلامها عن سانتي يرن في أذني رغما عني ويدفعني إلى التفكير فيه، صحيح كنت قد لاحظت أن سانتي تمشي مسرعة وليس لخطواتها ذات الإيقاع الذي تحرص السيدات والفتيات على تعلمه زيادة في تأنيث أنفسهن؛ ولهذا تبدو مشيتها سريعة متوثبة كمشية الصبي المعفرت، صحيح كنت قد لاحظت هذا، ولكن ما فائدة ملاحظته وإعجابي بها يملأ علي كل نفسي ويلغي من عقلي وجود أية فتاة أو امرأة أخرى مهما بدت أروع وأجمل وأكثر أنوثة؟ كل ما فعله كلام الممرضة أنه جعلني أضع في احتمالي أن سانتي، وإن كنت أراها كاملة، إلا أنه من المحتمل جدا أن تكون لها عيوب.
ليس هذا فقط، بل بدأت أفكر في أمور كنت أتجاهل التفكير فيها إلى تلك اللحظة، منها أشياء قد يخجل الإنسان عن ذكرها. صدرها مثلا لم يكن بارزا ذلك البروز الذي ينبئ عن أنوثة مكتملة، وطريقة سلامها مثلا، كانت تقبض على اليد بقوة وحماس وليس في تسليمها رقة المرأة.
أقول: بدأت «أفكر» في هذه الأمور مجرد تفكير، تفكير كل ما كان يفعله أن يزيدني ربما إعجابا بها، وربما لهذه الأشياء بالذات تلك التي يخالها الناس العاديون عيوبا، فحتى تلك اللحظة لم أكن قد سمحت لنفسي أن أتوقف وأتساءل عن كنه علاقتي بها، وهل أنا معجب بها؟ وبأي شيء أنا معجب؟ ماذا أريد منها وماذا تريد هي مني؟ كل ما كان يشغلني في تلك الأيام هو انجذابي التلقائي إليها وحرصي على القرب منها والبقاء أطول مدة معها، وكأنها قطعة موسيقية أو أغنية أحبها وأفضل سماعها دون أن أتلمس لهذا التفضيل أسبابا.
ولم لا أقول الحقيقة كلها وأذكر أن كلام الممرضة قد استغرق جزءا أكبر من تفكيري، وأنني في النهاية آثرت، بل وتمنيت، أن يكون صحيحا، وأن تكون لسانتي عيوب ليزداد أملي فيها؟ فمشكلتي الكبرى كانت أنني لم أكن من ذلك الصنف من الشبان الذين في استطاعتهم أن يتيهوا بوسامتهم على الفتيات، كنت أنظر في المرآة وأجعل عيني رغما عني لا ترى الأشياء التي لا أريدها أن تراها في وجهي وملامحي، الأشياء التي لم أكن أحتاج لرؤيتها لأدرك أنها هناك؛ فقد كنت لفرط إدراكي لها أحفظها عن ظهر القلب.
لم أكن وسيما ولا جميلا ولا يعد وجهي حتى من الوجوه المقبولة الشكل. لم يكن به عيب جوهري، كل ما في الأمر أن ملامحي لم تكن منسجمة، لأمر ما كان فمي يبدو للناظر واسعا كفم البحر إذا انفتح، مائلا إلى الناحية اليسرى إذا انغلق. أجل، كنت حقيقة أراه وكأنه ليس فمي وكأنه عاهة مستديمة أصبت بها منذ الصغر، وكأنه جرح عريض ملتئم يقطع وجهي ويميل إلى اليسار، وملامحي الأخرى لم يكن بها عيب، ولكن هذا الفم بوجوده الدائم بينها لا أدري لماذا كان يشوهها.
وأفظع ما في الأمر كان ابتسامتي، وعشرات الآلاف من المرات وقفت أمام المرآة أبتسم وأحاول أن أصلح الابتسامة وأجملها؛ إذ كنت قد قرأت أن ملامح الإنسان ممكن تغييرها بالتمرين الشاق الطويل. عشرات الآلاف من المرات ابتسمت فيها محاولا أن أجعلها ابتسامة مستقيمة كابتسامات كل الناس، محاولا أن أرفع قليلا ذلك الجزء الساقط منها إلى اليسار بلا فائدة حتى يئست، وتحول يأسي إلى عادة وتحولت العادة إلى نسيان مستمر مستديم لا ينتهي إلا في فترات محددة نادرة. وفي مثل تلك الساعة أو الساعات التي رحت أفكر فيها في كلمات قالتها الممرضة، وربما كانت صادرة عن حقد وموجدة، ساعتها عاد شكل ابتسامتي إلى ذاكرتي، ساعتها تمنيت لو كانت سانتي تمشي حقيقة كشيتا، تمنيت لو نبتت لها فجأة آلاف العيوب.
وبمثل الومضة التي تذكرت بها ملامحي اختفت الذكرى، وبدأت فجأة أنظر للأمور وكأني أصبحت على قدم المساواة مع سانتي، وكأن مشيتها تلغي بشاعة ابتسامتي، وكأننا أصبحنا أندادا، أو على الأقل يجب أن نصبح أندادا. ولكي يحدث هذا، ولكي يثبت هذا، كان علي أن أتوج أهدافي من سانتي بإيقاعها.
Página desconocida