قلت وأنا أضحك: مش شايف إيدي؟ اوعى تكون عميت في السجن. - الظاهر كده.
وسدرت في ضحكي ومررت يدي أمام عينيه لأهوشه فلم يرمش له جفن.
ومن فمه هو عرفت الحقيقة الغريبة التي لم أكن مستعدا أبدا لتصديقها، علمت أن البارودي أصيب بالعمى داخل السجن؛ ولهذا أفرجوا عنه.
والساعات التي قضيتها في الحفلة بعد هذا مرت وأنا مصدوم حائر، لا أكاد أصدق أن عيني البارودي المفتوحتين أمامي كالفناجيل لا تريان، وأنه حقيقة أعمى، وأن كل هذا حدث له داخل السجن، والأهم من ذلك أنه وشوقي وكل الحاضرين غير حزانى ذلك الحزن الشديد الذي كنت أحسه أنا، وأنهم يضحكون.
ولم أفق من الصدمة إلا بعد أن استعدت معلوماتي الطبية، وقلت له ممكن أن يكون أصيب بنوع من العمى النفسي، وأن من السهل علاجه، وناقشت البارودي في هذا الاحتمال، ولكنه أخبرني أن طبيب العيون في السجن يعتقد أن عماه عضوي، ولولا هذا ما أفرجوا عنه، وأضاف أنه حتما سيعرض نفسه على أخصائيين كبار في العيون، ولكنه يائس، وأغرب ما في الأمر أنه كان يناقش المسألة بهدوء وبلا اهتمام كبير خاص وكأنه يتحدث عن مشكلة كليشيه ناقص في أثناء الطبع.
واعترتني نوبة تأنيب ضمير أشد. البارودي الذي شككت يوما في الطريق الذي يقودنا خلاله كان في السجن وأصيب بالعمى وتحمل ما لا يطيقه إنسان، في وقت كنت ألعب فيه أنا وأفقد حماسي للعمل وأعارض وأتهم وأنا طليق.
في تلك الليلة لم أعد وحدي من منزل شوقي، كان معي البارودي وقد شددت عليه حتى قبل أن يقيم معي في شقتي إلى أن ندبر له مسكنا خاصا، وعرضي هذا كان أبسط شيء يمكنني أن أصنعه وأكفر به عن كل ما اعتراني من شك، وكل ما لم أتداركه من تقصير، وكنت سعيدا لا للفرصة التي أتيحت لي لأكفر، ولكن لأنه قبل الإقامة معي، وطوال علاقتنا لم أكن أراه إلا في أثناء العمل، أو لشيء خاص بالعمل، وأمنيتي الكبرى أن يطول نقاشي معه مرة أو يتاح لي أن أجلس معه جلسة لا تقطعها ارتباطاته الكثيرة ومواعيده، أية سعادة إذن أن يقيم معي وأقضي بجواره ما أشاء من أوقات!
وطوال اليوم التالي، وأنا أقوده إلى دورة المياه، وأنا أقرأ له وأكتب ما يمليه علي، وأنا أطعمه ونحن نأكل، وأسرح له شعره حين يغتسل، كنت أفعل هذا بحماس التائب، بحماس الضال حين يعود إلى حظيرة الإيمان، وبحب ممزوج بشفقة غريبة بدأت تتسرب إلى نفسي، الشفقة على البارودي الذي لم أكن أتصور أبدا أن يأتي عليه يوم يصبح فيه محل شفقة أحد، وبالذات محل شفقتي أنا.
ولكن اليوم ما كاد يقترب من نهايته حتى بدأت أدرك فداحة الموقف الذي وضعت نفسي فيه، في الرابعة والنصف دق جرس الباب، وكنت أعرف أنها سانتي.
وبدأت أفيق.
Página desconocida