Exposición en la Civilización y las Causas del Asentamiento Humano
البيان في التمدن وأسباب العمران
Géneros
ومن الأطباء سهل بن شابور ويعرف بالكوسج، كان بالأهواز في لسانه خوزية وتقدم بالطب في أيام المأمون، وكان إذا اجتمع مع يوحنا بن ماسويه وجيورجيس بن بختيشوع وعيسى بن الحكم وزكريا الطينوري قصر عنهم في العبارة لا في العلاج.
وكان المأمون قد قرأ في كتب الأوائل أن دور الأرض يكون أربعة وعشرين ألف ميل، فأراد تحقيق ذلك فأمر بني موسى الثلاث المشهورين وهم: محمد وأحمد والحسين أولاد موسى بن شاكر، وكانوا يعلمون جيدا علم الهندسة والحبل والموسيقى، بأن يحققوا ذلك ويحرروه فسألوا عن الأرض المتساوية، فأخبروا بصحراء سنجار وحققوا ذلك بارتفاع القطب الشمالي بعد عملية طويلة لا محل لذكرها هنا.
وكان المأمون أكرم الخلفاء وأحبهم للعلم والعلماء، وأقام بزمانه في بغداد مرصدا فلكيا ما زال إلى زمن هلاكو فدرس مع ما درس منها.
وهكذا نالت هذه الأمة في زمن هذا الملك وغيره من الخلفاء ما جعلها أن تفوق العالم بأسره بتقدمها في العلوم والمعارف، إلى درجة ما أدركتها أمة قط؛ فإن همم الخلفاء الإسلامية كانت موجهة نحو تقدم هذه الأمة وترقيها بكل ما أمكن من الوسائل اللازمة والأسباب، فكم منحوا من الجوائز للمترجمين والأدباء وقربوا منهم من الحكماء والعلماء! وكان إذا امتدح أحدهم بقصيدة شعر أجاز منشئها بكذا وكذا دينارا، وإذا ألف أحد كتابا وأهداه لخزائنهم يكافئونه إما بوظيفة من وظائف الديوان الخاص ويدنونه منهم ويقربونه، وإما أن يقطعوه من الضياع ما يكفيه ويكفي ذريته من بعده. وما ذلك إلا لترغيب الأمة في العلوم وحثها على طلب المجد، حتى تقاطرت نحو أبوابهم العلماء، واستنارت العقول، وأصبح كل يتسابق إلى التأليف والتصنيف. وما مضى على ذلك إلا جيلان أو ثلاثة حتى انبثت بواسطة هذه الأمة روح العلوم والمعارف في الأقطار، ونال ملوكها بسياستهم من الشهرة ما طبق الآفاق، وأصبحت الممالك الإسلامية كالشموس بالإشراق وقد شهد بتقدمها بالفضل وعظم سطوتها غالب مؤرخي الإفرنج وملوكها أيضا.
ومن ذلك ما نقله صاحب «كشف المخبا عن فنون أوروبا» عن فلتير أحد المؤرخين المشهورين قال: «وكان ملوك الإفرنج جميعا تستخدم الأطباء من العرب واليهود، والتزم البابا يوحنا الثامن أن يدفع للمسلمين في كل سنة خمسة وعشرين ألف رطل من الفضة وذلك سنة 877، وقد دخلوا إيطاليا ونهبوا كنيسة مار بطرس، وفتكوا بالجيوش الفرانساوية الذين كانوا ساروا إلى رومية لإجارة أهلها تحت راية القائد لوتاريوس. وفي القرن الثاني عشر كان المسلمون مستولين في إسبانيا على أحسن البلدان منها بورتغال ومرسية والأندلس وبلنسية وغرناطة وطرطوشة، وامتد ملكهم حتى إلى وراء جمال قسطيل وسيرقوسه. أما دار الخلفاء «يعني: الأمويين» فكانت في قرطبة، وفيها بنوا المسجد العظيم المشهور قبوه، مرفوعا على ثلاثمائة وخمسة وستين عمودا وهو من مرمر غريب الصنعة بديع الإتقان. ولم يزل معروفا إلى الآن باسم مسك «أي مسجد» مع أنه حول كنيسة. وكانت الصنائع والفروسية والأبهة في عهدهم في مزيد، وكان عندهم مواضع شتى للفرح واللهو.
أما علم المساحة والفلك والهندسة والكيميا والطب فلم يكن إلا في قربطة دون غيرها من سائر المدن «وأظنه أشار بذلك إلى مدن الأندلس»، حتى إن صانكو ملك ليون الملقب بالسمين اضطر إلى أن يسافر إليها ليأخذ الطب عن رجل كان مشهورا في عصره، فلما استدعى به الملك أجابه قائلا: إن كان للملك حاجة إلي فليقدم علي. وقال بعض المؤلفين إن المسلمين ملكوا من البلاد في مدة ثمانين سنة بعد الهجرة ما لم يملكه الرومانيون في ثمانمائة سنة. وقال أيضا في «كشف المخبا» نقلا عن «فلتير» المذكور قبلا: «إن أول ساعة دقاقة عرفت في فرانسا هي الساعة التي أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرانسا.» وقال في أبجدية الأوقات: علم الحساب إنما أخذ عن العرب في إسبانيا ثم شهر في إنكلترا سنة 1253، وقال صاحب معجم الجغرافية إن البابا سلوستروس الثاني، وكان يعرف أولا باسم جربرت، سار إلى الأندلس وأخذ العلم عن العرب، وكانت ولادته في سنة 930 وانتخب بابا في سنة 999، وكان ماهرا في علم المساحة وجر الأثقال والفلك، وهو الذي بث رقم الحساب العربي في أوروبا وأول من عمل ساعة ذات رقاص.
وحيث جرى ذكر الساعة فلا بد من استيفاء الكلام عليها. قال مؤلف المخترعات العجيبة: «ذكر المؤرخون من الفرنسيس: إن أول ساعة عرفت في بلادهم هي الساعة التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرانسا وذلك في سنة 807، وكان بدعا في ذلك العصر. حتى إنها أورثت رجال الديوان حيرة وذهولا، والظاهر أنها كانت من الآلات التي يديرها الماء المنحدر وكان له اثنا عشر بابا صغيرا تنقسم بها الساعات، فكلما مضت ساعة انفتح باب وخرج منه كرات من نحاس صغيرة تقع على جرس فيطن بعدد الساعات، وتبقى الأبواب مفتوحة وحينئذ تخرج صور اثني عشر فارسا على خيل وتدور على صفحة الساعة. انتهى ملخصا ما ذكره في كشف المخبا.
وقد ناسب هنا أن نذكر ما نقله عن مؤرخي الإفرنج أيضا، صاحب الشرف والمجد الوزير الأعظم خير الدين باشا التونسي في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، فقال:
ففي تاريخ دروي وزير المعارف العمومية الآن ما معناه: بينما أهل أوروبا تائهون في دجى الجهالة لا يرون الضوء إلا من سم الخياط؛ إذ سطع نور قوي من جانب الأمة الإسلامية من علوم أدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك؛ حيث كانت مدينة بغداد والبصرة وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وفاس وغرناطة وقرطبة مراكز عظيمة لدائرة المعارف. ومنها انتشرت في الأمم واغتنم منها أهل أوروبا في القرون المتوسطة مكتشفات وصناعات وفنونا علمية يأتي بيانها.
وفيها يقول: كانت الآداب قبل انتشار العرب من جزيرتهم متأصلة فيهم مؤداة بلغتين الحميرية في اليمن والقرشية في الحجاز وبالأخيرة جاء القرآن، «ولا يخفى عليك أن الذي يقابل الحميرية هو المضرية، وإن وقع الإجماع في القراءة علي خصوص القرشية»؛ ولذلك اشتهرت واستمر خلوصها إلى وقتنا هذا باستمرار كتب العلم والديانة. وما دخلت العجمة في اللسان إلا بدخول الأمم في الإسلام وتطاول السنين. وللغة المذكورة من الاتساع وسعة المجال ما لا يخفى على مثافنها لا سيما في الأشياء التي بها قوام المعيشة في البادية، أو لتكرار رؤيتهم لها أو تكثر حاجتهم إليها، فقد يكون للشيء الواحد عندهم عدة أسماء باعتبار تعدد صفاته وأحواله. وبكثرة الترادف عندهم اتسعت لهم دوائر الآداب الشعرية؛ إذ يقال: إن للعسل عندهم ثمانين اسما، وللثعبان مائتين، وللأسد خمسمائة، وللجمل ألفا، وكذا السيف، وللداهية أربعة آلاف اسم.
Página desconocida