وبدت البحيرة لا نهاية لاتساعها، وأصبحنا بالقارب والريس والصاري نقطة تافهة في الوجود غير المحدود. وتلك هي البحيرة فقط، فما بالك ونحن من لحظة أن غادرنا القاهرة وطريق طويل يسلمنا إلى طريق أطول. والأرض الخضراء على الجانبين، أرض واسعة لا حد لاتساعها، أوسع من أي شيء رأيناه، أوسع من السماء، السماء تضيق بسطح الأرض فتنحني السماء وتصنع خط الأفق، والأرض لا ينهيها خط ولا أفق. فبعد كل أفق تجد آفاقا أوسع.
والقرى كثيرة لا حصر لها، بين كل قرية وقرية قرية. وفي كل قرية مئات البيوت، وكل بيت يعج بعشرات الناس، وكل هؤلاء مصريون، كلهم مصريون، لا يمكن أن يموتوا كلهم أبدا. ونترك إقليما وندخل إقليما والأرض لا تنتهي والناس لا ينتهون. أناس متشابهون، وجوه لها لون أرضنا السمراء، وذقون وشوارب كشوش الأذرة، ونفس السحنات، وكأنهم رجل واحد مصنوع من ملايين الرجال. ويقولون إن سيدنا نوحا كان طوله ألف ذراع، ترى كم طول هذا العملاق الذي لم نعثر له على بداية، وظلت السيارات والقطارات تقطع بنا الأميال والأميال ولا نعثر على نهاية. حتى حين وصلنا المطرية، وانتهت الأرض وبدأت البحيرة، لم ينته العملاق، بل تحول إلى يد ضخمة. يد ذات عشرات الآلاف من الأصابع، يطلقها في ماء البحيرة فتمتلك البحيرة، وتعتصر من مياهها خير ما فيها، وكما يحدث لليد إذا امتدت إلى الماء وطال امتدادها، فالناس تصفر شعورهم، وتبهت بشراتهم، ويصبح لعيونهم زرقة الماء. ويتغير شكل الجسد ولا ينتهي العملاق.
كنا قد ابتعدنا.
وكل شيء أصبح مستقرا ما عدا الريس. كان دائب الحركة، لا يهدأ. المذراة في يده يغرسها في قاع البحيرة ثم يدفعها بصدره، وأرجله تمرق من وراء ظهورنا، وتدور حول القارب، وأصابع أقدامه تتشبث بالحافة في حنكة ودراية وكأنها قد تحولت إلى مخالب صقر وحركته تبهرنا، وكأنه يقوم بمعجزة، يميل ليدفع القارب أكثر حتى لنعتبره ساقطا في الماء، وإذا به يرتد، والمذراة قد انتزعها وكأن ألف حبل خفي تصل بينه وبين الصاري، وتحميه من السقوط.
ولم تكن الراكبة الجديدة إنسانة، كانت كتلة قلق حية جعلتنا نحس أن روحا جديدة حلت بيننا وفينا. عيناها تنظران إلينا ولا تتفحصاننا، وأيديها على ركبها، وأيديها على يد الحافة، وأيديها تضرع لإله غير منظور، ورأسها يدور، ولا يستقر، وينثني فجأة إلى الشاطئ ثم يرتد ويعود يدور. وما كاد الريس يفرد القلع حتى التفتت إليه وقالت: مش على طول يا خويا.
وقال الرجل بلكنته البحراوية والمذراة لا تزال تحت إبطه: إيواه .. ربنا يسهل.
وردت الخالة: إن شاء الله .. إن شاء الله إلهي يخليك.
والتفتت إلى الجالس بجوارها وسألته: وانتوا كمان؟
فأجاب حلمي ويده تتسلل دون وعي وتتحسس مكان الجرح في جبهته: واحنا كمان ..
وعادت تسأل الريس: ونوصل إمتى ..؟
Página desconocida