هذا هو أسلوبه، أسلوب الأفكار الذي ينسينا ما تعودناه من غيره من الأدباء؛ أي أسلوب الألفاظ والعبارات والزينات والبهارج.
الكاتب المفكر يأنف من الزينات والبهارج.
ذلك أنه يجد في أفكاره قيمة تعلو على الزخارف والزينات، فهو يتحدث في بساطة، وقد يغلو أحيانا فتحس فيه بلاغة، ولكنها بلاغة الأفكار المتدفقة، وقد تجد في تدفقها غلواء، كما لو كان واعظا يعظ فيرتفع صوته عندما يخلص ويتحدث عن إيمانه بالشرف والحق والعدل.
وليذكر القارئ أننا إنما نلجأ إلى الزخارف والزينات حين تكون المادة التي نزخرفها ونزينها رخيصة مبتذلة، فإذا صنع لي الفخار إبريقا من الطين فإني أؤثر أن يكون مزينا مزخرفا كي يخفي عني مادته الخسيسة وهي الطين، ولكن إذا صنع لي الصائغ إبريقا من الذهب الخالص فإني أؤثر أن يكون ساذجا ليست به زخارف أو زينات؛ لأن مادته ثمينة، مادة الذهب التي لا أشبع من الإعجاب بها حين أتأملها.
وهكذا الشأن في الكاتب المفكر؛ فإنه يقدم لك الذهب لا الصلصال، وأسلوب أفكاره يشغلك عن أسلوب كتابته، ومن هنا السذاجة في أساليب الكتاب العظماء مثل داروين، أو قاسم أمين، أو جان جاك روسو، أو أناطول فرانس؛ فإنهم جميعهم كتاب أفكار تحس أنهم يشبعونك، وأنك تكبر بقراءتهم، وتنضج بأفكارهم، وتزداد إنسانية وشرفا ببسط ضميرهم لك.
نقرأ برنارد شو فلا نجد كلمة مهجورة، أو كلمة منفوخة، وإنما نجد الكلمات المألوفة المأنوسة، وله كتاب يدعى «المرشد للمرأة الذكية عن الاشتراكية» لو نقل إلى العربية لبلغ أكثر من ألف صفحة، وتكاد لغته تتألف من كلمات البيت.
وأعظم ما يغمرك به برنارد شو وأنت تقرأه هو الإحساس بأنك تتحرر، وأنك تستعمل عقلك في موضوعات لم تكن تستعمل فيها عقلك من قبل، وإنما كنت تستعمل عقيدتك التي نشأت عليها.
والعقيدة هي انتحار العقل.
وأنت تحيي عقلك لذلك بما تقرأ من الأفكار المرتبة المتدفقة من برنارد شو، وتحس إخصابا لعقلك كأنك لم تتعلم منه معارف جديدة فقط بل مناهج جديدة للتفكير: التفكير الاجتماعي، التفكير البيولوجي، التفكير الديني، التفكير الاقتصادي، وأنت تستيقظ بهذا الأسلوب ولا تنعس أو تنتشي.
فهو يقول مثلا: الصحة حكمة، الأخلاق من الذكاء، من لا يعرف كيف يصنع نفسه لا يعرف كيف يصنع شيئا آخر.
Página desconocida