ثم التفتت تطلب «ڤكتور» فلم تجده، فسألت عنه «ماري»، فلم تعلم كيف غاب، فساءها ذلك، ولكنها لم تكن ممن يقفون في السبيل قبل إدراك الغاية، فأخفت ما نالها من القلق والاضطراب، وعادت إلى الطواف حول الراقصين في الغرف، ثم حملت «ماري» على الرقص حتى كلت وأعيت، فلجت بطلب الانصراف، فأمرت الكونتة بتقديم عربتها وأجلست الفتاة، ثم أمرت السائق بتوجيه الخيل إلى بيت «ڤكتور»، فصاحت «ماري»: رحماك يا سيدتي، كيف نسير إلى منزله؟! - وإلى أي منزل غيره تسيرين؟ أيحسن بزوجة المسيو «ديلار» أن يعرف أنها في باريس، ولا تكون في منزل الموسيو «ديلار»؟! - وما الرأي إن طردني من بيته؟ - إن حمله الحقد والطيش على الإعراض عنك، فما عليك إلا أن تتركيه وشأنه حتى يجيء أولادك غدا، فيشتد بوجودهم أزرك، وتغلب حجتك، أما طردك من البيت فاعلمي أنه لا يتجرأ عليه. - لست بجاسرة على دخول منزله كيف كان الأمر. - إني أرافقك إليه وأضمن لك البقاء فيه. - توكلنا على الله ...
ولما بلغتا منزل «ڤكتور» استوقفت الكونتة العربة، وأرسلت السائق بين يديها مخبرا، ثم اقتادت «ماري» من يدها إلى الدرج، فرأتها ترتعد وجلا، فقالت لها: تجلدي، لا بأس عليك، أترضين أن تكون العجوز أقوى منك، وأن تستعيني بها على السير؟!
ثم وصل سائق العربة وقرع باب الدار، فخرج إليه الخادم والنوم ملء عينيه، ولما رآه ومن ورائه الكونتة و«ماري» عجب من قدومهم إلى دار سيده في مثل تلك الساعة من الليل، فقالت له الكونتة: هذه الويكونتة «ديلار» فبشر زوجها بقدومها. - إن سيدي غائب لم يعد بعد. - إذن ننتظره.
فسار الخادم بين يديهما بالمصباح إلى مجلس الدار، فلما أوصلهما قالت له الكونتة: إن الموسيو «ديلار» لم يكن متوقعا وفود السيدة عليه في هذه الليلة، وإنما هي دهشة مضمرة له، فلا شك أنكم لم تستعدوا لاستقبالها الآن، فانحنى الخادم تصديقا على هذا المقال وانصرف لإعداد ما تحتاج إليه سيدته من أسباب الراحة، فقالت «ماري» مغمغمة: ماذا عساه أن يقول؟
ثم نظرت إلى ما حولها من الآنية المستظرفة، والتحف الثمينة المزخرفة، فدلتها الفطرة الأنثوية على أنها تذاكر أو هدايا نسائية، فقالت: ما هذا الإسراف والتبذير؟! وكم فيما أراه من أثر لغيري؟! - عليك بالتجلد يا بنية، فأنت ههنا صاحبة الحق الجلي، فلا تجزعي، إن الله ولي أمرك، وأخيار الناس أنصارك.
وبقيتا بعد ذلك صامتتين نحو نصف ساعة، والكونتة على شيخوختها لا تظهر شيئا من علائم الكلال والتعب غير أنها كانت تهز كتفيها من حين إلى حين تململا من الانتظار، ثم أحست بحركة عربة وقفت في الطريق، وضرب بعد وقوفها جرس المنزل، ففتح الباب، فقرع أذنها صوت «ڤكتور»، وسمعت الخادم يخبره بقدوم زوجته، ثم رأته مقبلا على المجلس، فنهضت إليه و«ماري» لا تستطيع نهوضا، فلما وصل قالت له العجوز: هذه زوجتك يا حبيبي الويكونت صحبتها إلى منزلك لأسلمها إليك تسليم الأمانات ثم أمضي فأستريح، وبسطت إليه يدها للوداع وهي تقول: واعلم أني خدمتك خدمة من طب لمن حب، ولسوف تذكرني فتشكرني.
ثم عانقت «ماري» وهي فاقدة الرشد خوفا وانزعاجا، وخرجت فتبعها «ڤكتور» محاولا إخفاء غيظه بمراسم التوديع ومواجب الإكرام في التشييع، ثم عاد إلى زوجته، فوقف أمامها صامتا شاخصا إليها برهة من الزمان، ثم خاطبها والغيظ يكاد يخنقه فقال: إيه سيدتي! هو ذا أنت عندي، وقد جئت غير مدعوة ولا منتظرة، ولم تبالي أكنت قادرا على قبولك أم غير مستعد له، فجعلتني في موقف حرج أوشك أن أكون به سخرية لأهل باريس، لا جرم قد أفرطت مدام «سرزول» في الاعتماد على شيخوختها وسطوة والدي فيما اختارت لنا من الحيرة والارتباك، فإني أعرف من طباعك وأحوالك ما يحملني على الجزم بأنك لم تحضري المرقص مختارة، وإنما أكرهت على المسير إليه ، ولولا اختراعي لذاتي لما ملكت من نفسي الصبر، وكنت الآن ... لا أدري ... أي شيء. - مهلا «ڤكتور» مهلا، أرعني السمع ولا تلم الكونتة ولا والدك، ولا تسئ بي الظن قبل استماع ما أقول، إني أجهل شأنك في هذا البلد، ولا أعلم لم حرمتني من لقائك، ولكني لا أجهل الغاية التي تسعى إليها والأمنية التي تروم الحصول عليها، فأنت تلتمس العلاء والمجد والثروة والعز، وتطمع أن يصيبك الانتخاب، وتكون من النواب، فيتسع لديك المجال، فتبلغ نهاية الآمال، وأنت في كل ذلك محتاج إلى الصيانة مفتقر إلى ما يدرأ عنك الشبهات، فلن تصير شيئا مذكورا حتى تكون مصون الظاهر وقورا، وإني لو استطعت إطلاقك مما يفيدنا معا لما ترددت فيه، ولكن الأمر من فوق ما نريد، فإن لنا أولادا أعزاء وأنت لهم لا لنفسك، ولا بأس مع ذلك عليك، بل كن كما شئت، وافعل ما أردت، ولا تبال بوجودي في منزلك؛ فإني أكون فيه بمنزلة الصديقة الرفيقة أو بمكان الأخت الشقيقة، أو غير ذلك مما تختار ما عدا منزلة الزوجة، فتراني متى شئت أن تراني، وأسليك من غمك إذا رأيتني لتسليتك أهلا، ثم تفعل ما أردت، وتذهب أيان قصدت، وتكون ولي أمرك وأمورنا جميعا، لا تعارض، ولا يعترض عليك، ولعلك تستريح في أوقات الفراغ لمداعبة أطفالنا، فتنكشف عنك الهموم، فأولئك الأطفال ما برحوا أعزاء عليك لا محال، ويكون المشهود والمشهور من أمرك عند الناس أنك محصن في أهلك مصون، فتندفع الشبهات عنك وتنقطع الظنون، ثم لا يلزمك الاهتمام بتدبير المنزل، وتخف عنك مئونة النظر في صغائر الأمور، أما أنا فلا أطالبك بشيء ولا أدعي لنفسي عليك حقا، وسأحفظ لك العهد وإن كان عنيفا عسيرا، وحسبي من السعادة رضاك، ومن الهناء أن أراك.
أراك فيمتلي قلبي سرورا
وأخشى أن تشط بك الديار
فجر واهجر وصد ولا تصلني
Página desconocida