3
هو الحب فاسلم بالحشى ما الهوى سهل
فما اختاره مضنى به وله عقل
فبقي «ڤكتور» ناظرا إليها، شاخصا بها حتى غابت عن بصره، فحول قدميه إلى حيث كانت أولا حتى وصل ذلك المكان، ولم يدر فمر به النسيم بليلا، فعبث بشعره، ورطب جبينه الملتهب، فجلس حيث كانت جالسة يلتمس فهم ما لم تصل مداركه إليه من انفعالات نفسه، فيرى أن هناك جمالا فائق الوصف يجذبه نحو تلك المرأة التي ما رأى مثلها في النساء إلى ذلك الحين، ولا يدرك لهذا الأمر سرا، ولا يجد له حدا حتى غربت الشمس، وأقبل الظلام فتنبه لوجوب الرجوع إلى «مرلي»، فانقبض من ذلك صدره أيما انقباض.
وكانت «ماري» تنتظر عودته عند باب الحديقة وبين يديها طفلها البهي، فلما رأته أسرعت إليه تعانقه وتقبله بصفاء قلب لم يداخله الفساد، ثم تأملته، فإذا هو مفكر منزعج، فخافت أن يكون منحرف المزاج، فأقبلت عليه تهتم بشأنه، وتعنى بخدمته عن صدق وداد واختصاص، فلم ينفر منها، ولكنه لم يستطع إخفاء ما في النفس.
دلائل الحب لا تخفى على أحد
كحامل المسك لا يخلو من العبق
ولما دخل غرفتها التي هي مقدس شعائر الوالدية، ومجلى فضائل الزوجية، وجدها خالية من الزينة والبهجة، ثم نظر إلى زوجته فرأى بساطة زيها الذي لم يكن فيه من الحسن غير النظافة والطهر، فأذكرته بما رآه صاحبا من محاسن الباريسية الحسناء، وكانت «ماري» تراقبه وهي صامتة وتحاول الوقوف على سره فلا تستطيع، ثم أرسلت إليه طفليهما فقبلهما على الجبين قبلة غير مشتاق، فأعادتهما إليها مكتئبة وضمتهما إلى صدرها إنصافا مما رأته من ظلم أبيهما، ثم دنا أحدهما من وعاء صيد أبيه، وأخرج منه الحقة الحمراء التي شربت بها الباريسية الحسناء، فانتزعها أبوه من يده بعنف وأودعها الخزانة قائلا: لا ينبغي لأحد أن يمسها مذ الآن.
ولم ينم «ڤكتور» بل أحيا الليل هائما في القصر، فكان تارة يدخل الكنيسة للصلاة فلا يرى فيها غير صورة واحدة: صورة «أليس»، وحينا يتمشى في الحديقة تحت الأشجار يرجو تسكين ما به من تباريح الحمى برطوبة الهواء وما هي إلا نار الغرام ذات الضرام.
وما كاد يتنفس الصبح حتى خرج من القصر من غير أن يشعر بخروجه أحدا، حتى أن والده لم يتمالك أن قال حين لم يره على المائدة : إن ل «ڤكتور» شأنا جديدا في هذه الأيام، أما هو فلم يجسر على الدنو من الموعد قبل الساعة المعينة خوفا وحياء، فأخذ يطوف بالضواحي بين المروج والبساتين، فينشده «معي» لسان الحال:
Página desconocida