فَرِيقٌ كَابْنِ الْكَمَالِ مَنَعُوا حَصْرَ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى لِنَحْوِ قَوْلِ عَائِشَةَ ﵂ وَعَنْ أَبَوَيْهَا نَحْمَدُ اللَّهَ لَا نَحْمَدُك وَفِي الْمَثَلِ عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى فَالْمَحْمُودُ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ فِعْلًا لِلْمَحْمُودِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُخْتَارًا فِيهِ وَلَا مَدْخَلَ لِخَلْقِ الْأَعْمَالِ إذْ الْكَلَامُ فِي الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ فَمَرْجِعُهُ النَّقْلُ مِنْهُمْ كَمَا عَرَفْت وَفَرِيقٌ أَوَّلُوا مَعَهُمْ كَالدَّوَّانِيِّ وَحَصَرُوا الْحَمْدَ لَهُ تَعَالَى عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ الْحَمْدُ مُخْتَصٌّ بِالْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ وَلَا اخْتِيَارَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى عَلَى قَاعِدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَبْدُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ.
قَالَ الْمَوْلَى الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ مُشِيرًا إلَى تَرْجِيحِ الْأَخِيرِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ نَزَّلُوا حَمْدَ الْغَيْرِ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ وَمَنْزِلَةَ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ مَبْدَأُ كُلِّ جَمِيلٍ لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ خَلْقًا وَتَمْكِينًا وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ سِوَى الْمَحَلِّيَّةِ وَهُوَ بِجَعْلِهِ أَيْضًا وَكُلُّ جَمَالٍ وَكَمَالٍ مُضْمَحِلٌّ فِي جَنْبِهِ تَعَالَى رَاجِعٌ إلَيْهِ وَكُلُّ اخْتِيَارٍ لِغَيْرِهِ يَعُودُ إلَى اضْطِرَارٍ. انْتَهَى.
(وَالْخَامِسُ) وَهُوَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالْمَحْمُودِ بِهِ وَهُوَ بِاللِّسَانِ كَمَا فُهِمَ مِنْ لَفْظَةِ الْوَصْفِ ضِمْنًا وَلَزِمَ عَلَيْهِ عَدَمُ الْحَمْدِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ لِسَانٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤] فَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِاسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ أَوْ أَمْرٌ بِهِ أَوْ مَجَازٌ عَنْ إظْهَارِ الصِّفَاتِ الْكَمَالِيَّةِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ مَيْلُ السَّيِّدِ إلَى الْأَخِيرِ أَقُولُ قَالَ السَّيِّدُ عِنْدَ قَوْلِ شَارِحِ الْمَطَالِعِ وَهُوَ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ حَقِيقَةُ الْحَمْدِ إظْهَارُ الصِّفَاتِ الْكَمَالِيَّةِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا وَهُوَ أَقْوَى لِدَلَالَتِهِ عَقْلًا وَدَلَالَةُ الْقَوْلِ وَضْعًا الَّذِي يَجُوزُ تَخَلُّفُهُ عَنْ مَدْلُولِهَا بِخِلَافِ الْعَقْلِيَّةِ فَهَذَا عَلَى وَفْقِ مَا ذَكَرَهُ الدَّوَانِيُّ أَنَّ ذِكْرَ اللِّسَانِ قَيْدٌ غَالِبِيٌّ إذْ هُوَ مَوْضُوعٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْأَمْرِ الْعَامِّ ثُمَّ بِالْغَلَبَةِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَهُوَ اللِّسَانُ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيهِ مَعَ أَنَّهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ أَعَمُّ بِالْإِظْهَارِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى وَأَتَمُّ فَيَشْمَلُ أَيْضًا حَمْدَ الْمَلَائِكَةِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى تَقْيِيدِ تَشَكُّلِهِمْ بِشَكْلِ الْإِنْسَانِ لَكِنْ أَخْرَجَ الْمُنَاوِيُّ حَمْدَ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ وَالنَّائِمِينَ لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَلَا يَخْفَى إذَا اُعْتُبِرَ حَمْدُ الْجَمَادَاتِ كَمَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَالْحَيَوَانَاتُ أَوْلَى مَعَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ تِلْكَ الْآيَةِ وَهُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ وَكُلُّ أَمْرٍ مُمْكِنٌ أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ فَحُمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ غَايَتُهُ عَدَمُ اطِّلَاعِنَا بِهِ وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَبَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ تَسْبِيحُهُمْ وَتَحْمِيدُهُمْ إلَّا أَنْ يُرَادَ الْحَمْدُ الَّذِي يَحْمَدُ بِهِ الْحَيَوَانُ بِتَعْلِيمِ الْإِنْسَانِ لَا مُطْلَقُ الْحَمْدِ.
قَالَ الشَّرِيفُ وَمِنْ قَبِيلِ الْحَمْدِ الْفِعْلِيِّ حَمْدُهُ تَعَالَى وَثَنَاؤُهُ عَلَى ذَاتِهِ لِأَنَّهُ حِينَ أَوْجَدَ الْمَوْجُودَاتِ أَظْهَرَ عَنْ صِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ بِدَلَالَاتٍ قَطْعِيَّةٍ وَلَا تَدُلُّ الْعِبَارَةُ مِثْلُهَا وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ ﷺ «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» فَلَوْلَا خَوْفُ إمْلَالِ الْمَقَامِ لَقَضَيْت حَقَّ حَمْدِ الْمُفَضِّلِ الْمِنْعَامِ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ
(الَّذِي جَعَلَنَا) إنْ أُرِيدَ بِهَذَا الْوَصْفِ بَيَانُ دَاعِي هَذَا الْحَمْدِ فَمَحْمُودٌ عَلَيْهِ وَإِنْ أُرِيدَ مُجَرَّدُ تَوْصِيفِهِ تَعَالَى بِهَذَا الْوَصْفِ فَمَحْمُودٌ بِهِ فَمِنْ قَبِيلِ اجْتِمَاعِهِمَا بِالْجِهَتَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَمَالٌ وَاخْتِيَارِيٌّ وَجَمِيلٌ وَقَعَ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْقَضِيَّةُ فِعْلِيَّةً فَالْمُرَادُ أُمَّةُ إجَابَةٍ وَإِنْ مُمْكِنَةً فَأُمَّةُ دَعْوَةٍ فَالْمُتَبَادَرُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي أَيْضًا نِعْمَةٌ فَإِنَّ التَّمْكِينَ نِعْمَةٌ وَالْأَقْدَارَ عَلَيْهَا نِعْمَةٌ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ لِإِزَالَةِ امْتِنَاعِهَا لَكِنْ لَوْ لَمْ يُوقِعْ ذَلِكَ لَزَادَ نِقْمَةً وَعُقُوبَةً يَظْهَرُ بِمُلَاحَظَةِ شَاهِقِ الْجَبَلِ ثُمَّ هَذَا الْجَعْلُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَاعِدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ سِيَّمَا لِمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْأُسْتَاذِ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ صَعُبَ الْفَهْمُ إذْ مَعْنَى جَعَلَهُ تَعَالَى مِنْ الْأُمَّةِ إعْطَاءُ الْإِسْلَامِ مَثَلًا وَهُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ فَإِنْ أُرِيدَ مِنْ إعْطَاءِ الْإِسْلَامِ إعْطَاؤُهُ ابْتِدَاءً بِلَا تَوَسُّطِ مَدْخَلِ الْعَبْدِ فَمَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ أَوْ الْحُكَمَاءِ وَإِنْ بِوَاسِطَةِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ بِأَنْ يَصْرِفَ قُدْرَتَهُ فَيُوجِدَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْلَامَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ فَيَرْجِعُ إلَى تَمْكِينِ الْإِسْلَامِ وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ اللَّفْظِ وَالْمُعْتَدُّ بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ لَيْسَ إمْكَانَهُ بَلْ وُقُوعَهُ وَإِنَّ الْمُتَبَادَرَ اسْتِقْلَالُهُ تَعَالَى فِي إعْطَاءِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ اشْتَرَكَ فِيهِ الْعَبْدُ بِصَرْفِ قُدْرَتِهِ إذْ هَذَا الصَّرْفُ مِنْ الْعَبْدِ فَقَطْ عِنْدَنَا لَعَلَّ حَلَّ هَذَا الْإِشْكَالَ كَمَا أُشِيرَ بِأَنْ يُلْقِيَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ عِلْمَ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، وَمَحَبَّتَهُ وَسَائِرَ دَوَاعِيهِ نَحْوَ إرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ الْمُلْهِمَةِ وَكَرَاهَةِ ضِدِّهِ وَمَنْعِ الشَّيْطَانِ عَنْ وَسَاوِسِهِ وَسَلَامَةِ آلَاتِهِ وَبِعَدَمِ إرَادَةِ ضِدِّهِ (أُمَّةٍ) جَمَاعَةٌ
1 / 7