186

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Géneros

ولا تزال تلك الأدوار تفتننا لعدم خلوها من المعايب.

ومع ذلك يوجد اختلاف بين أسس ذينك الدورين الماجنة، فكان الأغارقة أكثر بساطة قبل أفلاطون على الخصوص، وكان رجال عصر النهضة أكثر سفاهة، وقد اضطر دور النهضة، للعثور على الطريق المؤدية إلى الآلهة القديمة، إلى ترك أمور لم يكن الأغارقة قد حازوها بعد، ويبدو هذا جليا فيما كتبه مكيافلي الذي بنى أدب الدولة على إنكار جميع المبادئ التي قد علمها في صباه، ويعد إعجابه بسزار بورجيا حملة سافرة على علماء الأخلاق الذين كانوا ينكرون إمكان وجود ابن للبابا وإمكان اشتراك دوك ربي في الفاتيكان في مؤامرة، وتجعل هذه الواقعية من مكيافلي محللا بارعا، ومع ذلك تختلف لا خلقية مكيافلي عن خلقية أوميرس اختلاف تمثال الليل الذي نحته ميكل أنجلو لضريح فلورنسي عن تمثال السعلاة الناعسة لدى الأغارقة.

ولا يشابه رجل عصر النهضة رجل القرون القديمة الذي اكتشفه حديثا إلا من بعض النواحي، وعلى العكس تراه أكثر شبها بنا، وهو أقرب إلى عصرنا من جميع من ظهروا بينه وبيننا. وكان عصر النهضة فرديا إلى أبعد حد، وإذا عدوت حب الحرية لم تجد صلة بينه وبين الديمقراطية، وذلك مع اختلاف وسائل البحث عن الحرية في كلا الدورين اختلافا تاما ومع تباين رجالهما تباينا كبيرا، ويدل ما بدأنا به من وضع الجد في قالب الهزل على تعذر كل بعث لدور النهضة بعد الآن. أجل، إن من النوابغ من ظهروا في كل زمن وتحت كل نظام، غير أن حدود المبادئ الديمقراطية تقلص ما فيهم من استعداد للازدهار، وصار وجود عبقري على رأس الدولة أمرا لا يطاق، وفي هذا سر التجاء العبقري الحقيقي إلى حظيرة العلم والفن تاركا عالم العراك إلى الأكثرية؛ أي إلى قليلي الذكاء أو إلى مشخصين متوسطي المواهب.

ويتجلى وجه عصر النهضة المزدوج حتى في صلات هذا الدور بالحركة الدينية المعروفة ب «الإصلاح» الذي هو وجه آخر للتمرد على القرون الوسطى.

ودفقت من الأرض القديمة على شواطئ البحر المتوسط في الجنوب تماثيل من القرون الخالية كأنها تمد أعضاءها الرخامية والبرونزية بعد نوم طويل، فبرزت عارية أو مدثرة مع الجود من جديد ديانا وأبولون وهيرا وزوس وبوزئيدون وديميتر وآلهة البحر وبناته وعرائسه وحيوانه، وقد أفاق جميع هؤلاء تحت سماء جديدة كانوا يعرفونها كشمس أوميرس، وقد أهرع متفننون وهاوون وأمراء وجامعون فبنوا لهؤلاء الأغارقة قواعد ثمينة غافلين عن أنه يعوزهم أحيانا ذراع أو رجل أو رأس.

ولكن عاصيا نصرانيا في الشمال كان يحصر بصره في آثام البابوات آنئذ، ومن هؤلاء البابوات واحد صور خليلته على جدار الفاتيكان ونصب أخا هذه الخليلة كردينالا ومنح ابنه الخاص لقب دوك، على حين كان يهيئ في ثلاث أحوال مختلفة زواجا سياسيا لابنته الباهرة الجمال: لوكريس بورجيا. وكان لوثر برومة في ذلك الحين، وأظهر ما كانت عليه نفسه في وضح ذلك النهار هو أنه لم يوجه نظره إلى غير المعايب، لا إلى النور، وقد أفلت في وقت واحد زمام الحركتين: الخلقية واللاخلقية، والشهوانية والروحانية، والبعث الأدبي والإصلاح الديني، والاندفاع والامتناع، والادعاء والدعاء، لتتصادما صداما لا مخرج منه.

والواقع أنه كان يوجد في القرن الخامس عشر رجال من أنصار النهضة في الشمال كما كان يوجد متعصبون في الجنوب، ويكفي لبيان ذلك أن يذكر أمر إراسم وسافونارول، فكلاهما كان يصاول خصومه تارة ويصالحهم تارة أخرى وفق اختلاف طبعهما، وكلاهما عرض لريح العصر فكانت هذه الريح ترفع معطفهما فيرى تشابه غشائهما الفاني، وكان كل منهما يماثل الآخر في أمر، في ممارسة قوة الطبع، ولا يدهش من ظهور سافونارول مع مواكب مريديه التائبين فخورا كأبطال مكيافلي في أثناء عرضهم، ويلاحظ تساوي الاثنين في عنصرهما المسرحي، والاثنان قد بحثا عن المجد كهدف عال لهما.

ومع ما كان عليه إراسم من تسامح فإنه تحول عن لوثر لنفوره من تعصب هذا الأخير أكثر من كرهه شهوانية البابا ليون الذي وقف حياته على الجمال والروح، ومع ما كان عليه مكيافلي من لا خلقية فقد جعل من نفسه رسول موسى وتيزه؛ أي رسول منشئ الدول الروحية هذين، وهو لم يسمح للأمير الذي كان مربيا له بأي لعب أو بطالة.

والحق أنه لا ينبغي أن يعد توراة عصر النهضة كتاب مكيافلي، كتاب «الأمير»، الذي ملأ أفكار القرون الآتية، وخيال الملوك المعاصرين أيضا، فقليل من كانوا يعرفونه في ذلك الحين، وقليل من استوحوه. والواقع أن مكيافلي لم يعلم شيئا كان لا يشعر به منذ أقدم القرون، والقرون الوسطى مع «بلد الرب» فقط، هي التي كانت لا تذكر ذلك، وكل ما هو جديد في مكيافلي هو إصراره الكلبي ضد الأدب النصراني، وقد حرك هذا الإصرار وهمز شهوات القراء الطامعين في السلطان، وقد عاش الكبراء من الأمراء وفق مبادئ مكيافلي قبل ظهوره وبعد ظهوره وإنما كانوا يحترزون من الاعتراف بذلك.

وقد عبر عصر النهضة عن حقائق مكنونة في جميع القلوب، وكان الصدى المحرك للأحرار من القوة ما صار الأساقفة ينتخبون البابوات معه من الأحرار المفكرين، ولسرعان ما مات البابوان السوداويان التقيان اللذان شغلا الكرسي البابوي بين بابوات عصر النهضة الثلاث العظماء فعد موتهما السريع رمزا لروح زمانهما. وكانت القرون القديمة تلوح بين هذه الحياة الفياضة مثل نجم مذنب ظهر حديثا ليهتدي به الملاحون المغامرون في بحار هائلة، ويموت مكيافلي فيحكى أن قديسين من الجنة وقدماء من جهنم بدوا له، ويسأله الرب: أين يريد أن يذهب؟ فيجيب قائلا: «أفضل النقاش السياسي مع عظماء جهنم على سأم يعتريني في الجنة من أناس لا طعم لهم.»

Página desconocida