وقد أعانت جميع هذه العوامل على ظهور اشتراع ممتاز بعد جوستينيان بسبعمائة سنة وقبل بكاريا
13
ونابليون بستمائة سنة.
ونرى أن نذكر بعض الأمثلة التي نقتطفها من مختلف نواحي الاشتراع بلا تعمل للدلالة على روح التقدم في هذا العاهل في سواء القرون الوسطى.
لقد أجير النساء والأولاد، فصار لا يحق للزوج أن يقتل زوجته غير الوفية، حتى إن العواهر أجرن من الجور، وعلى العكس لا تستطيع المرأة أن تشكو رجلا اغتصبها إلا بعد أن تكون قد حاولت رده ثلاث مرات. وقد قرر الحد الأعلى لبدل إجارة الطلاب في الجامعات، وبدأ القانون يجازي من يمارس الطب بلا امتحان خلافا لما كان شائعا حتى ذلك الحين، وكان على من يريد مزاولة الطب أن يدرسه في خمس سنين مقدما، فإذا فعل ذلك وجب عليه أن يتدرب لدى طبيب ماهر، وصار يؤذن في تشريح جثة مرة في كل خمسة أعوام، مع حظر الكنيسة هذا إلى ذلك الوقت بشدة، وأصبح من الواجب على الأطباء أن يتعهدوا، مع ذلك القسم، بمعالجة الفقراء مجانا، وأن يعودوا كبار مرضاهم في كل يوم مرتين، وألزم النصارى بألا يأخذوا فوائد عن دين، ولم يؤذن في أخذ فوائد تزيد على عشرة في المائة.
ويرجع جميع ما كان فردريك يطبقه من دراساته إلى أصل عربي تقريبا، ولا سيما الرياضيات والعلوم الطبيعية منه، ويرغب فردريك في إيجاد حل لبعض المسائل العلمية فيهدي سفينة إلى علماء من العرب، ولما رمى قدحه المشهور في البحر لم يصنع ذلك عن زهو، بل عن حض للغواص على تقديم تقرير إليه عما يجد في أسفل الماء، ويرسل إليه سلطان دمشق وفدا خاصا ليقدم إليه نسخة ذهبية عن نظام السيارات مع بيان حركة الأجرام السماوية، فيصرح الإمبراطور، كما روى ابنه، بأن هذه الهدية أعز ما لديه في الدنيا، ويراسل عالما يهوديا في طليطلة محرضا إياه على جمع موسوعة عربية. وقد أمر بترجمة كتاب لابن ميمون إلى اللاتينية، وترجمة كتاب لبطليموس إلى العبرية، وأراد أن يدرس آثار الهضم فدعا رجلين إلى مائدته، وقدم إليهما طعاما وافرا، ثم أرسل أحدهما إلى الصيد وأرسل الآخر إلى السرير فوجد الذي ضجع أحسن الاثنين هضما.
وكان فردريك، ككثير من العظماء، يحب الحيوانات، والطيور على الخصوص، وقد انتهى إلينا، فيما انتهى، كتاب ألفه فردريك عن «فن الصيد بالباز»، وما أبداه فيه من ملاحظة دقيق، وما ضمنه إياه من تفصيل جدير بأرسطو، حتى إنك تجد في الكتاب فصلا عن الوضع الذي تكون عليه الطيور حين نومها، ولا تشتمل مقدمة الكتاب على غير الجملة الآتية الوحيدة في تاريخ الكتب، وهي: «إن المؤلف رجل مدقق مخلص للعلم، إمبراطور روماني وملك للقدس وصقلية.»
وأفضل لهو لدى الإمبراطور هو الصيد بالباز وشيد القصور، ومع ذلك لم يكن فردريك من نمط قياصرة بزنطة فيجد من عوامل السعادة أن يركع الزائر أمامه في قصور شبه قوطية، وكل ما كان يحبه هو أن يقيم بقصر منعزل في أبولي، وهنالك كان يمكن السيد البناء أن يستريح خلف الأسوار ذات الأبراج القوية المثمنة الأضلاع والمجهزة بنوافذ وأبواب مخالفة للعادة بعرضها، وهنالك كان يمكنه أن يتأمل ، من نافذة دقيقة النقش، في أرصفة ثمينة وفي حدائق وغابات ومدن وحصون وفيما هو واقع وراء ذلك من بحر وجبال لا تدل على حدود مملكته.
وقد أسكن الإمبراطور أربعين ألف عربي في جوار إحدى المدن، وبالقرب من لوسرن فأقام مستعمرة عربية في وسط إيطالية! وأراد بناء مسجد لهؤلاء المسلمين في مكان كنيسة فأمر بهدمها متذرعا بإشرافها على الخراب، أجل، اتهم فردريك بأنه كان صاحب دائرة حريم عربية، غير أنه كان عارفا بما هنالك من حب فلم يجد شيد متحف حي، وهو، على العكس، كان يفضل فصل بعض مختاراته الكثيرات عن بعض فيغمرهن بالنفائس عن أبهة وثنية، وذلك مع مجاراته جميع روائع الحياة عن تكديس لضرائب جديدة تجبى من رعاياه.
أولم يكن من الطبيعي أن يصرح البابا الشاعر بأن هذا الوارث لآل هوهنشتاوفن، المحيط به والمبطل لقدرته، عدو المسيح؟ أنشأ هذا الإمبراطور النصراني مسجدا للكافرين بدلا من محاربتهم بالحديد والنار، وسخر هذا النصراني من ذخائر القديسين، وجلب هذا الإمبراطور إلى بلاطه في بلرم صواغا ومنجمين وكيماويين وشعراء وعازفين من العرب بدلا من أن يغنم كنوزا من الشرق، ومع ذلك يوكد هذا الملحد إيمانه بالخلود!
Página desconocida