هنا أطبق كتاب «النسائيات» شاعرة بأن علامة استفهام كبيرة تتجسم في. أود أن أفهم كيف لم تفكر في وجوب اهتمام النساء بذوي الفاقة، وضرورة تكوين جمعية خيرية نسائية بين المسلمات؟ لقد أذهلني دائما أن أرى في هذا القطر جمعيات خيرية نسائية لجميع الطوائف والنحل إلا للمسلمات، مع أن المسلمين أغنى عناصر القطر وأرحبها كرما وأقربها إلى إتيان المعروف. وبما أنهم العدد الأوفر كان المحتاجون من فقرائهم كثيرين. إن أعمال البر أقرب الأشياء إلى قلب المرأة، ولو فقدت هذه جميع دلائل اليقظة الفكرية فإن حنوها يظل حيا جائلا منسكبا على من يستحقه ويظمأ إليه؛ لذلك لا أفهم إغضاء السيدات المسلمات عن تأليف جمعية بر منهن.
2
وفي ما عدا ذلك، هل من معترض على صلاحية اقتراحات الباحثة؟ إني أرى شيئين بارزين من إطار هذا المذهب الصغير: أولا وجوب فتح أبواب التعليم للمرأة. ثانيا وجوب انطباق كل إصلاح على التعاليم الإسلامية والعادات القومية. وتعصبها للأمر الثاني جعل أحدهم يقول عنها: «إنه لا ينقصها سوى العمة لتصير شيخا.» على أني أتفاءل خيرا بتمسكها بالمصرية والإسلام ليكون المتعنتون أكبر ثقة برأيها، هي التي لا تقبل من الدخيل إلا ما ليس عنه غنى.
إننا في زمن مطالبه عديدة واحتياجاته شديدة، وللمرأة كغيرها مكان تحت الشمس، وعليها واجبات لا بد من تتميمها نحو نفسها ونحو الآخرين. فإذا قدر عليها أن تعول ذويها وهي ليست من أهل الخدمة والخياطة فكيف تحظر عليها فروع العمل الأخرى؟! حتى وإن لم تقدم على الدرس عن حاجة بل عن رغبة بحتة واحتياج إلى المعرفة والنور، ذاك الاحتياج المعذب المنبثق من أعماق الكيان، فبأي عدل يحكم عليها بالبقاء في سجن الجهل، وبأي إنصاف تمنع عن التصرف بما لديها من مشيئة تطلب القوة وذكاء يطلب الغذاء؟! كيف يحجر عليها في حريتها الشخصية البريئة، وهل أوجد الباري هذه الحرية والعدالة جنبا إلى جنب فكتب على كل منهما: «خصوصية للرجال» و«حقوق التمتع محفوظة للرجال»؟
وعلى ذكر التعليم أود أن أقحم جملة معترضة وأقول: كم من علم ضروري للبنين والبنات على السواء يهمل بناتا بينما هم يصرفون الأعوام في تحصيل آخر لا ينتفعون به. نعم إن المرء يستفيد من جميع العلوم إلا أنه بحاجة ماسة إلى بعضها دون الآخر، وإني لأضرب مثلا بواحد منها. كلما طالعت في الصحف أخبار المحاكم والأحكام شعرت بأن علم القانون والوقوف على ما جاز وما حرم من الأعمال ، من أهم ما يتلقنه أفراد مجتمع منظم يسير تحت نفوذ تشريع واحد. إن المرء يجبهه القانون في كل خطوة يخطوها وفي كل أمر يأتيه. يرتكب المخالفة والجنحة لاهيا، وقد يفقد ثروة أو يرتكب جناية على غير علم منه، ويعاقب شديدا على جرائم لا وجود لها في تقديره ولا هو ينتبه لها إلا حين صدور الأحكام بها. كذلك في أعماله اليومية يحتاج أحيانا إلى إيضاحات صغيرة في ذاتها إلا أن جهله إياها جسيم النتائج. فيلجأ إلى السماسرة والمحامين وكتاب المحامين والموظفين العديدين - وقد يبتغي إيضاحا فلا يلقى إلا تعقيدا، فتتعطل مصالحه وترتبك شئونه، ولا يقف على ما يريد إلا ساعة تنقضي فرصة الاستفادة وتلافي الشر. وكل ذلك أساسه جهل أصول القانون وجهل أساليب التصرف المعينة في أحوال مخصوصة.
وما يقال في الرجل يزاد عليه في المرأة. لا سيما المرأة المسلمة التي يقوم حجابها جدارا بينها وبين دوائر الأعمال، فيتاجر بجهلها الوكيل والقيم والحارس والكاتب ومن نحا نحوهم فيتلاعبون بمصالحها ما شاءت لهم الأطماع تلاعبا. فإذا كانت المدارس تعنى الآن بتدريس علم الصحة البدنية لأهميته فأحر بها أن تدرس مبادئ القانون وهو علم الصحة الاجتماعية. وعلى اللبيب المتيقظ رجلا كان أو امرأة، أن يدرس ما استطاع منه في وحدته كيلا تصادمه البلية ولات ساعة ندم. •••
رأي الباحثة في الخطبة والزواج معروف، تقبله الأكثرية المتنورة إن لم يكن عمليا فمبدئيا. لقد قالت في لائحة خطبتها في نادي حزب الأمة - وفي جميع مقالاتها عن الزواج - باتباع الطريقة الشرعية في الخطبة، فلا يتزوج اثنان قبل أن يجتمعا بحضور محرم. وقالت في الاقتراح الثامن من اقتراحاتها في المؤتمر الإسلامي بوجوب السعي في تقليل الزوجات. وهما رأيان في منتهى التعقل والصواب. ومما يبشر بالخير أن تعدد الزوجات أصبح نادرا في الطبقة الراقية، وقل من هؤلاء من يتزوجون بلا اجتماع وتعارف. وانتباه الآباء والفتيات لهذا الأمر والعمل به إنما هو في مصلحة المرأة المصرية كما أنه في مصلحة القومية المصرية، وإلا فما أسهل أن يتزوج الشاب من امرأة أجنبية تشربه روح وطنيتها فيتزوجها مبصرا بدلا من أن يقترن بالمصرية كفيفا.
وقد ارتأت اتباع عادة نساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج. ترى أتعني عادتهن منذ اثنتي عشرة سنة، أم عادتهن المتحركة مع الحياة، المتغيرة بتغيير الأحوال؟ إن المرأة التركية تحركت كثيرا في هذه الأعوام، وقد كتب بعض مراسلي صحف الفرنجة في الآستانة أنها صارت تسير في الشوارع سافرة بزي باريسي، كذلك تحركت المرأة المصرية. وكان أن قامت مظاهرات نسائية في إبان الحركة الوطنية في الربيع السابق فلم يعترض الرجال ولم يقابلوا هذه النهضة الجميلة بغير الرضى والإعجاب. ثم كان أن لجنة ملجأ الحرية أعلنت في أواخر نيسان (إبريل) أو أوائل حزيران (يونيو) رغبتها في إقامة سوق خيرية تبيع فيها الفتيات المصريات أزهارا مساعدة للملجأ، فهبت الصواعق والزلازل في وجه هذا الإعلان واستاء الجمهور استياء شديدا.
وأنا قرأت احتجاجاته بتعجب واحترام: التعجب لأن سخط اليوم لا يتفق مع رضى الأمس مع أن أعمال البر لا تنقص عن أعمال الحماسة الوطنية شرفا اجتماعيا، وإن فاقتها شرفا أخلاقيا. أما الاحترام فلأن ذلك الإباء صادر عن طائفة كبيرة من المصريين، وجميع الآراء القومية جديرة بالاحترام لأنها تعرب عن نفسيات الأقوام وعقلياتهم. ولكني عدت على رغم مني أتبين أحوال المرأة التركية. ففضلا عن أنها اشتغلت في مصالح التليفون والبريد والتلغراف وغيرها فإن الحركة لم تقتصر على طالبات المعاش؛ إذ إن السلطانة حرم السلطان محمد الخامس ذهبت إلى إحدى مدارس البنات في الآستانة لتتصدر حفلة ختام الدراسة الثانوية، ووزعت بيدها الجوائز على المبرزات من الطالبات. ولما زار الإمبراطور شارل الهبسيوري الآستانة وذهب لمقابلة الحضرة السلطانية حضرت الحرم السلطاني تلك الزيارة الرسمية في قاعة التشريفات من وراء الحجاب. قد يقال إن هذا ليس سفورا بحتا. صحيح، ولكنه يشبه المقدمة، ولم يسبق له مثيل - على ما أعلم - في تاريخ سلاطين بني عثمان. وإذا قيل: إن هذه إلا أخبارا طيرتها البروق في ذلك الحين ولا يسهل التثبت من صحتها، فماذا نقول في السوق الخيرية التي أقامتها في الآستانة جمعية نسائية قبل نشوب الحرب بشهور قليلة، وقد برزت فيها سيدات وأوانس البيوتات الإسلامية الكبيرة، ونشرت صور بعضهن يومئذ مجلة «الأيلوستراسيون» الفرنساوية؟
ليس ما أورده هنا إلا سوانح لا قيمة لها في الإصلاح المرجو، ولا أهمية لما أقوله إزاء ما يرتئيه أساطين المسلمين. ثم هل يجدي الاحتجاج والاقتراح نفعا إزاء التطور والانتقال المحتم من حال إلى حال؟! وباحثة البادية التي يعرف من قرأ كتاباتها تعصبها للمصرية والإسلام وغيرتها في المحافظة على العادات الشرقية، تقول بالسفور ليس اليوم ولكن في المستقبل؛ لأن المرأة ليست الآن على استعداد له لا هي ولا الرجل. ولقد سمعت منها ذلك شفاها بعد أن قرأته في «النسائيات»، وأجده الساعة في مقالي الفرنساوي الذي كتبت تحت تأثير المقابلة الأولى. وفيه ما معناه:
Página desconocida