إذا ما وقفت على بدعة مستحدثة ورأت أمرا جديدا سارعت إلى استجواب نفسها هل في ذلك ما يغاير الأوامر الدينية. وإذا ساد نظام بين القوم واستحكمت روابطه بفعل المران والاستعمال والملاءمة لشروط الزمان والمكان دون أن يكون مقررا في نصوص الشريعة السمحاء فهي لا تحفل به كثيرا، حتى إذا ما أرغمت على قبوله قبلت منه أقل مظاهره ابتعادا عن الفكرة الدينية. ويا ويلمها عادة لا تروق لها! إنها تثور ثائر غضبها وتتسلح باسم الدين لمكافحتها، ويا لحدة سنان يراعها الذي يصبح في تلك الساعة حربة وخازة! قالت منتقدة الذين يعلمون بناتهم الرقص والتمثيل.
لا أعلم عند الإفرنجية عادة تساوي «الزار» إلا مخاصرة الرجال في الرقص، وما يتبع تلك العادة من التهتك والتصنع والميل عن جادة الصواب، وما ينشأ عن إباحتها المطلقة بلا قيد ولا وازع، من الضرر البليغ والإخلال بالشرف. وأدهى من ذلك أن ينتشر بينهن مذهب حرية الاعتقاد، وهو مذهب من لا يصدق بالله ولا باليوم الآخر، فيزعمن أنهن يجتنبن الرذائل بمحض إرادتهن وتربيتهن. ولكن هل إذا منعت الفضيلة امرأة عن إتيان ما لا يرضي فهل يصح أن تطبق هذه النظرية على كل امرأة؟ إن النفس لأمارة بالسوء، ولقد تقدم على كثير من الموبقات لولا الضمير الحي، وهو ثمرة الوازع الديني، أفلا يعقلون؟! أرانا لا نتمسك شديدا بديننا الحنيف وهذا بدعة وعدوة أتتنا من الغرب. أو كلما رأينا إنسانا يفعل شيئا حاكيناه، وإن كان في ذلك خسارة ديننا ودنيانا معا؟
إن ذلك (أي الرقص) مناف للدين الإسلامي، هادم للفضيلة، مدخل لضار العادات بيننا، فعلينا أن نحاربه ما استطعنا، ونظهر احتقارنا لمن تفعله من المسلمات القليلات، اللاتي إذا شجعناهن بسكوتنا لا يلبثن أن يعدين الغير منه.
2
لست أدري هل كثر العاملات بهذا الرأي؟ إني شهدت من الهوانم كثيرات ممن أتقن خطوات «البولكا» و«المازركا» و«الفالس» و«الطانجو» يراقصن صاحباتهن في اجتماعاتهن اللطيفات. فأي مانع يمنعهن؟ وأي «عار» على امرأة في مراقصة زوجها أو أخيها في المجالس العائلية، أو مراقصة صديقاتها في اجتماعات نسائية؟ إن فن الرقص - شرقيا كان أم غربيا - رياضة مفيدة للصحة إذا استعمل باعتدال، فضلا عن إنه يمرن أعضاء الجسم فيكسبها لينا ونشاطا وخفة ويحفظها من النشوفة والتصلب، كما أنه درس نافع جدا لتحديد الحركة وتسهيل انسجامها، وهو أفضل مقياس لها. ويجوز مثل هذا القول في التمثيل. إني عرفت سيدات مثلن في اجتماعات نسائية وسهرات عائلية، لم أرهن رأي العين ولكن قلن لي إنهن يفعلن. ومنهن واحدة تعجب بالباحثة إعجابا شديدا، بل هي من أعز صديقاتها اللاتي يحببنها حبا جما، وقد اجتمعت بها للمرة الأولى في صالون باحثة البادية نفسها. زرت هذه السيدة منذ عامين أو ثلاثة وأخذنا نتحدث عن بعض الروايات التمثيلية، فذكرت رواية مثنية على حسن تأليفها وبراعة تنسيقها، ثم قالت: «لقد تقاسمنا أدوارها في الأسبوع الماضي، ونحن منهمكات في هذه الأيام بدرسها؛ لأننا سنمثلها أنا وصديقاتي أمام طائفة من معارفنا وزائراتنا.» كانت الباحثة في الفيوم يومئذ إلا أنها كانت تراسل صديقتها هذه كل أسبوع تقريبا، ولا أدري هل علمت بما كان يشغل صاحباتها مما أنكرت إتيانه بالحدة التي تعلم!
أما مسألة «الشرف» فيصعب حلها جدا؛ لأنها من الكلمات التي يستعملها البشر غالبا في غير محلها، ولها رنين يقرع السمع كالأجراس، ولكنها في الحقيقة أمر نسبي، كجميع المعاني البشرية. الشرف في اعتقادي أسمى وأنقى كثيرا من أن يتلوث بالغبار الذي تثيره خطوات «الفالس»، بل هو أرق لطفا وأصفى جوهرا من أن تدانيه يد الإنسان. على أني أفهم أن الباحثة لم تقصد الرقص على الإطلاق؛ لأنها لم تذكر الرقص الشرقي، بل هي عنت مراقصة الرجال للنساء على الطريقة الإفرنجية.
والآن أشعر بأني جالبة على نفسي حكما شديدا من أبناء الطرز الحديث لما أنا مجاهرة به. إنهم ينحنون أمام المرأة المحجوبة ولكنهم لن يكونوا لي من الراحمين. أنا فتاة سافرة تسري علي عادات مجتمع هو أقرب إلى «التفرنج» منه إلى أي نزعة أخرى. وقد تعلمت الرقص واشتركت مع قومي في السهرات الراقصات ولم أر فيها شيئا يصح أن يسمى «إخلالا بالشرف» ولكني ... ها قد وصلت إلى الخطوة الرهيبة ... ولكني لا أريد للمرأة اختلاطا كبيرا بالغرباء، وأكاد أقول إني لا أستحسن مراقصة الرجال للنساء.
أما الآن وقد فهت بهذا الإلحاد الاجتماعي الهائل فقد «نمرني» أهل العصر وحشروني في فصيلة المتقهقرين والرجعيين. اللهم لك الحمد والشكر على كل حال!
وإذا نادت بالإصلاح العائلي استشهدت بالله متهددة الظالمين وقالت: «ألا فلينتبه الرجال وليتقوا الله في نسائهم، وليعلموا أن التقوى مطلوبة في السر والعلن وأن الله يرى» ... «يا قوم تداركوا الأمر ... وسنوا سنة صالحة لأبنائكم وبناتكم من بعدكم يكن لكم آخرها إلى يوم الدين، ولله عاقبة الأمور.»
3
Página desconocida