البدرُ التمام شرح بلوغ المرام
للإمام القاضي الحسين بن محمد المغربي
(١٠٤٨ هـ- ١١١٩ هـ)
تحقيق
علي بن عبد الله الزبن
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
قدم له
فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان
رئيس مجلس القضاء الأعلى
الجزء الأول
المقدمة / 1
البدر التمام شرح بلوغ المرام
المقدمة / 3
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
١٤١٤ هـ = ١٩٩٤ م
المقدمة / 4
تقديم فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، خلق الإِنسان وعلمه البيان، وهدى من شاء إلى سلوك طريق الجنة، فأعظم عليه بذلك المنة، ونفع به الأمة، والصلاة والسلام على إمام الهداة المهتدين، وقائد الغر المحجلين، المبعوث رحمة للعالمين، الذي أخرج الله به الأمة المحمدية إلى خير المنازل وأقوم المسالك، فصاروا خير أمة أخرجت للناس؛ تقوم بالعدل، وتحكم به، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتنشر العلم، وتبث المعارف، وتدعو إلى سواء السبيل، وتحافظ على ميراث النبوة، وتصونه عن العبث والتحريف، وتبين مقاصده، وتوضح مراميه، وتحل مشكله، وتبسط القول في مجمله. وذلك لأنَّ الله أراد حفظ هذا الدين وصيانته.
وبعد، فإن أفضل العلوم وأجلُّها ما كان سببًا لنيل أشرف المنازل وأرفعها، وهو علم الشريعة الغراء، وأعلى ذلك وأرفعه ما كان متعلقًا بكلام الله أو كلام رسوله محمد ﷺ، إذ إن كلام الله وكلام رسوله قُطْبَا رحى علوم الشريعة، وعليهما مدار أحكام الشريعة في العقيدة والعبادات وسائر أحوال النَّاس. فالقرآن كلام الله الذي هو الحكم والفصل في كل ما شجر بين النَّاس، وكلام رسوله ﷺ بيان لما نزله الله للناس من الأحكام.
وقد عنى علماء الإِسلام بخدمة الكتاب والسنة، وقاموا بذلك خير قيام، ولم يوجد في الأمم السابقة من العلماء من خدم شريعة نبي كخدمة علماء الإسلام لشريعة الله المنزلة على خير الأنام، فقاموا بضبط نصوصها، وحل ما قد يستغلق على بعض النَّاس من ألفاظها، كما قاموا بجمع ما ورد منها جمعًا عامًّا وجمعًا خاصًّا، فألَّفوا أدلة الأحكام، وأدلة العقائد، والإِيمان
المقدمة / 5
ما بين مبسوط ومختصر، واعتنوا بشروح الأحاديث عناية فائقة، وقاموا بحفظ متونها واستنباط الأحكام والقواعد من نصوصها، فكثرت الشروح على الكتاب الواحد ما بين مختصر ومطول، واعتنى متأخرو علماء الحديث بالاختصار تبعًا لتقاصر الهمم وضعف المدارك.
ومن أجَلِّ ما أُلف في جمع أدلة الأحكام مع الاختصار كتاب "بلوغ المرام" للعلامة الحافظ، ابن حجر العسقلاني، الذي صار عمدة المتأخرين، يعتنون بحفظه والمذاكرة في أحاديثه، وكان الحافظ قد بالغ في اختصار الكلام عن الأحاديث، فيأتي بخلاصة ما يرى عن الحديث صحة وتحسينًا أو ضعفًا، فكان هذا الكتاب الحائز للدرجة العالية من حسن الجمع وحسن الاختصار يحتاج إلى شرح يستغني به قارئه عن مراجعات مطولات الشروح وكتب اللغة والأحكام، وكان أول من وصل إلينا شرحه لهذا الكتاب العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني صاحب الكتب النافعة البديعة، فوضع كتابه "سبل السَّلام" وتداولته الأيدي، وتناقله طلحة العلم، ونهلوا من فيض معارفه، فقَلَّ أن تجد مكتبة خالية منه، وبه ذاع وانتشر حيث أصله كتاب "البدر التمام شرح بلوغ المرام" لمؤلفه العلامة القاضي الحسين بن محمد المغربي اليماني من مغرب اليمن. وكان طالب العلم يتطلع إلى رؤية أصل سبل السَّلام، ويتمنى مطالعة هذا الشرح، وقد أعجب بالفرع الذي هو "سبل السَّلام"، غير أن ضخامة كتاب "البدر التمام" قد عاقت عن الحصول عليه وانتشاره بين النَّاس رغم الحاجة إلى تداوله.
ولما صارت الجامعات الإسلامية في هذه البلاد السعودية تشجع أهل العلم وتحثهم على بعث نوادر الكتب من مراقدها، وإخراجها من غياهب سجونها، وتسهيل سبل الاستفادة منها، قوى الرجاء ودبَّ في النفوس الأمل بأن يتوالى نفض الغبار عن مكنونات تراثنا المجيد وإخراج كنوزه؛
المقدمة / 6
لينهل طلاب العلم ورواد المعرفة من معينه الثر وموارده العذبة.
وكان من بين هؤلاء الرواد الدكتور علي بن عبد الله بن عبد الرحمن الزبن، الذي توجهت همته إلى نيل الدرجات العلمية بتحقيق كتب السنة وعلومها، فكان بدو ثمرات جهده واجتهاده إخراج كتاب "شرح تراجم صحيح البُخاريّ" للعلامة بدر الدين ابن جماعة، الذي نال به درجة الماجستير، فكان جهده بإخراج ذلك الكتاب جهدًا يذكر فيشكر، وكم من الفوائد والدرر في تراجم الإِمام البُخاريّ ﵀، ثم توجهت همته لنيل الدكتوراه بإخراج كتاب "البدر أقام شرح بلوغ المرام" فقام بذلك بكلِّ جد ونشاط، وجمع عددًا من نسخ الكتاب ترى الإِشارة إليها في مقدمة الكتاب وجمع قدرًا من مراجع الشارح من مخطوطة ومطبوعة، وبذل جهدًا بارزًا في إخراج الكتاب بصورة مشرقة، واعتنى بشرح المفردات الغامضة، وترجمة الأعلام الذين يحتاج القارئ إلى معرفتهم وذكر الطوائف التي أشار إليها الشارح بتعريف موجز مفيد، وخرّج الأحاديث بالطريقة الفنية المعاصرة، واستدرك على المؤلف الشارح في بعض مواضع من الكتاب، راجعًا في ذلك إلى مراجع معتمدة عند أهل العلم. ولما نال شهادة الدكتوراه بجزء من هذا الشَّرح سمت همته إلى إبراز الكتاب كاملًا، وهو بذلك يُسدي إلى المكتبة الإسلامية يدًا بيضاء بإبراز أوفى شرح لبلوغ المرام وأكمله، إذ الحاجة إلى إبرازه داعية، وحاجة دارس كتاب بلوغ المرام إلى تداوله ملحة، وقد هيأ الله أسباب ذلك بتوفيقه لفضيلة الدكتور علي بن عبد الله الزبن للقيام بهذه المهمة.
وسيجد القارئ في هذا الشَّرح من التعليقات والاستدراكات المبثوثة في حواشيه ما يحمد المحقق على عمله ويشكره على عنايته. ولن أتحدث بتفصيل عن مزايا هذا الشَّرح، ولا عن فوائد الهوامش التي زيّن بها المحقق صفحات الكتاب وأشار إلى مواضع أقوال العلماء من مراجعها عند إشارة الشارح
المقدمة / 7
إلى رأى بعض أهل العلم، ممَّا يعين الباحث المتطلع لاستقصاء البحث، وهي طريقة نافعة وجذابة يسَّرت للباحثين اختصار الوقت، والإِطلاع الواسع بأقصر مدة.
وقد رغب مني فضيلة الدكتور علي أن أكتب كلمة بين يدي الكتاب، فأجبته إلى طلبه، مع علمي أن الكتاب غني عن كلمتي، إذ هو شرح لأجَلِّ مختصرات كتب علماء الحديث المتأخرين، كما أن مختصره "سبل السَّلام" قد صار له كالطليعة إذ إن كتاب "سبل السَّلام" مختصر منه، فتغني معرفة ذلك عن مدحه، وقد ازدانت حواشيه بتعليقات رائقة ومباحث فائقة، أسأل الله أن ينفع بها جامعها ومطالعها ومن أعان على نشرها. وإني بهذه المناسبة أحثُّ طلاب العلم على العناية بالحديث وتفهم معانيه ومراجعة شروحه وتتبع ألفاظه من مختلف رواياته، وعدم الاكتفاء والاجتزاء بالمختصرات ما أمكن الوصول إلى المطولات لما في مطولات الشروح من البسط والوضوح وإبراز فضل العلم وإظهار مزاياه والدلالة على تفاوت أصنافه في الفضل؛ "فإن فضل العلم تبع فضل المعلوم، وأفضل العلوم علم القرآن والسنة، فحري بطالب العلم غير المتخصص أن يكون له نصيب من ذلك، فضلًا عن المتخصص بهذه العلوم، إذ يُطلب منه بذل الوسع والتقصي بما يمكن، لا سيما وقد يسر الله سبحانه أسباب انتشال المدفون من أمهات الكتب ومطولات الشروح، كهذا الكتاب الذي ما كان يعرف إلَّا من قول الصنعاني رحمة الله عند تعرضه للحديث عن معاني نصوص "بلوغ المرام" باختصار لكلام الشارح أو استدراك عليه أو توضيح له.
أسأل الله أن يجزي الدكتور علي بن عبد الله الزبن على عمله جزاء الصادقين الناشرين لعلوم سنة سيد الأنام، وأن يمنحنا وإياه وسائر طلاب العلم ومحبيه من أسباب التحصيل والتحقيق ونشر كنوز تراثنا الإسلامي
المقدمة / 8
ما يكون سبب يقظة علمية ونهضة مباركة، تسمو بها معارفنا، وتسعد بها مجتمعاتنا، وتزكو بها مداركنا، إنه سبحانه سميع مجيب، وأخيرًا أكرر شكري للدكتور محقق هذا الشَّرح وأتمنى له مزيدًا من التقدم والمشاركات العلمية المفيدة، والله الموفق. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
حرر في مدينة الرياض في ليلة ٧/ ٨ / ١٤١٤ هـ
رئيس مجلس القضاء الأعلى
صالح بن محمد اللحيدان
المقدمة / 9
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم الذي علم بالقلم علم الإِنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، وعلى الله وصحبه ومن اقتدى بهديه وبعد:
فإن العلم أشرف المطالب، وأجل الرغائب، وأجلُّه وأعلاه معرفة الخالق سبحانه
وتحليل حلاله وتحريم حرامه، وكان رسول الله ﷺ المبلغ عن الله رسالاته المبيّن
لمراده سبحانه، والمعبر عن مقاصد كتابه. فإن العلوم إذا تنوعت وتفاوتت مراتبها كان علم السنة رواية ودراية من أعلاها مرتبة، وأرفعها منزلة بعد كتاب الله تعالى.
وكيف لا يكون وهو كلام الهادي البشير الذي بعثه الله رحمة للعالمين وأوتي القرآن ومثله معه، بأبي هو وأمي صَلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وقد تسابق في هذا الميدان علماء هذه الأمة خلفًا بعد سلف، وقام اللاحق يتم
ما بدأه السابق، حتَّى أحاطوا كلام رسول الله ﷺ بأسوار منيعة، ورسموا لتلقيه
وحمله ضوابط دقيقة، ووضعوا أصول الرّواية والتحمل حتَّى أحكموا مباني هذا الشأن، ورفعوا مناره فبادروا في استخراج درره وجواهره، وفرعوا الفروع على أضوائه، وقعّدوا القواعد المستنبطة من مدلول جوامعه عقيدة وفقهًا وسلوكًا وآدابًا، ثم جعلوا يؤلفون في كل فن ما يدل عليه ويرشد إلى الصواب فيه ومن ذلك أدلة الأحكام.
وقد اختلفت وجهات النظر لدى الأئمة الأعلام ما بين متوسع ومطول، ومتوسط ومقل، وكان كتاب "بلوغ المرام من أدلة الأحكام" للعلامة الحافظ ابن حجر قد حاز رضى أهل هذا الفن، وصار من أهم ما يقصده الطلاب حفظًا
المقدمة / 10
واستدلالًا، وقد حوى من الأدلة غالب ما يحتاج إليه الفقيه، فصار عمدة المتأخرين لما امتاز به من حسن الاختيار وذكر علل الأخبار في غالب الأحيان. ولمنزلة مؤلفه لدى أهل هذا الفن انصرفت الهمم إليه، وكتبت عليه الشروح لكشف غوامضه والجمع بين ما يظن التعارض فيه في بعض متونه، وكان شرحه الموسوم "سبل السَّلام" للأمير الصنعاني ﵀ عمدة لحفاظ كتاب البلوغ والمشتغلين به لأنَّه أوسع شرح متداول بين النَّاس وهو من أهم مراجع الطلاب في جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية وغيرها في مادة الحديث، كما هو كذلك في بعض الجامعات العريقة كالجامع الأزهر. وقد اعتمد الصنعاني في شرحه لبلوغ المرام على كتاب سابق ألفه الإِمام القاضي الحسين بن محمد المغربي وسماه "البدر التمام شرح بلوغ المرام" ويمتاز هذا الأصل بما يلي:
١ - العناية بعلوم الحديث دراية ورواية؛ بنقد الأسانيد واستخراج الأحكام من متونها.
٢ - تخريج الأحاديث وبيان طرقها من مصادرها الأصلية، وذكر العلل وآراء العلماء حولها، ممَّا يجعل الناظر المجتزئ بقدر الحاجة يعتمد عليه في العمل بما ذكره عن أسانيد تلك الأحاديث.
٣ - العناية بالمسائل الفقهية المستنبطة من أحاديث الكتاب، إذ إن ثمرة علوم الحديث هي استخراج الأحكام من أدلتها وبيان وجه الدلالة منها.
٤ - أن هذا الأصل لكتاب سبل السَّلام يمتاز عن فرعه بتفصيل ما أجمله وبسط ما طواه وما نجم عن ذلك أحيانًا من غموض أو قصور.
٥ - ولأنه لما تتوافر الهمم لتحقيق هذا الكتاب وطبعه مع ما له من أهمية ومميزات وما ذكرته بعضًا منها.
٦ - أن كتب الشروح تجمع في الغالب كافة الفنون بدءًا بكتب الفن، فتعنى بتخريج الأحاديث ودراسة أحوال الرجال وألفاظ الجرح والتعديل وعلم مصطلح
المقدمة / 11
الحديث، زيادة على ما فيها من دراسات قرآنية ونكات فقهية وشوارد لغوية ولمحات بلاغية.
فلِما ذكرته ولغيره من مميزات وفوائد الكتاب الذي بذل فيه مؤلفه ﵀ جهدًا كبيرًا وأودعه علمًا غزيرًا، وجدتني مدفوعًا للعمل في تحقيق هذا السَّفر والتقدم به لنيل درجة الدكتوراه في علوم السنة.
وكان الجزء الذي تقدمت به من بداية الكتاب إلى نهاية كتاب الجنائز. ولما أنهيت هذا الجزء لنيل الدرجة العلمية وجدتني مدفوعًا لإكمال بقية الكتاب لا سيما أن الفائدة لا تكتمل إلَّا بذلك. ولكن السير على نفس المهج الأول يطيل الكتاب ويثقل حواشيه، فاستقر رأيي على إكمال بقية الكتاب بمنهج يجمع بين الفضيلتين فأقلل الحواشي من الجزء السابق، وأقتصر في الجزء المتبقى على ما أراه ضروريًّا، كتخريج أو استدراك؛ خشية من الإطالة. فأرجو أن أكون موفقًا في ذلك، ومن الله أستمد العون والتوفيق.
والله أسأل أن يوفق الجميع إلى ما فيه الخير والصلاح، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يبيض به وجهي -يوم تبيض وجوه وتسود وجوه- ووالديَّ الكرام ومشايخي ومن لهم فضل علي وللمسلمين، إنه جواد كريم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
كتبه
علي بن عبد الله بن عبد الرحمن الزبن
الرياض صباح السبت ٢٥/ ٨ / ١٤١١ هـ
المقدمة / 12
الحسين بن محمد المغربي
قبل أن ندخل في ترجمة الإمام القاضي الحسين بن محمد المغربي يحسن بنا أن نقف على صورة موجزة عن الحياة السياسية والعلمية ولا ريب أن الحالة السياسية وما يصاحبها من أمن واستقرار ورغد عيش يؤثر على الحالة الاجتماعية والعلمية في نفوس النَّاس فتستقر نفوس الناس ويهدأ بالهم وينصرف تفكيرهم إلى العمل والتحصيل وغير ذلك، وإذا كانت الحالةُ السياسية سيئة انعدم الأمن والاستقرار وأصبح النَّاس يخافون على أنفسهم وأموالهم، والعلم له ارتباط وثيق بهذا، فإذا كان الأمن موجودًا ساعد على نشر العلم وعلى الانتقال من مكان إلى آخر للتحصيل والدرس على المشايخ وغير ذلك.
والعصر السياسي الذي عاش فيه الإمام المغربي من أسوأ الفترات التي عاشتها اليمن داخليًّا حيث كانت النزاعات مستعرة بين الأئمة، وخارجيًّا حيث كانت الحروب دائرة بين الأئمة من جهة والأتراك من جهة أخرى، على أن هذه الحالة السياسية العصيبة ما كانت لتظهر فجأة، بل كانت امتدادًا لأحداث سبقتها، ويقول أحمد حسين شرف الدين (١): إن الحكم الإمامي قد تمكن فعلًا من تثبيت أقدامه بصنعاء وتدعيم كيانه فيها خلال الشطر الأول من حكم الإمام شرف الدين وولده المطهر لولا ما مُنِىَ به من الغزو الخارجي من جراكسة وأتراك، ذلك الغزو الذي أخرج الإمام شرف الدين وابنه من صنعاء وجعلهما يتقهقران عنها ويلجآن إلى رؤوس الجبال.
_________
(١) اليمن عبر التاريخ ٢٣٩.
المقدمة / 13
وبالرغم من ذلك فقد ظل الإِمام المطهر يقاوم هذا الغزو الكثيف ويحارب فيالق الجيش التركي بصورة أثارت إعجاب المؤرخين وأدهشتهم كما استمر بعده الإمام المنصور القاسم ثم ولده المؤيد الذي أتيح له إخلاء الأتراك نهائيًّا من الأراضي اليمنية سنة ١٠٤٥ (١) ولم يعودوا لغزوها إلَّا عام ١٢٥٢ إثر خلافات داخلية بين الأئمة من أجلها عاد الأتراك للمرة الثَّانية إلى اليمن.
وأمَّا السياسة الداخلية فقد عصفت باليمن فتن داخلية للخلاف على الإِمامة دامت عدة قرون سجل المؤرخون فيها عشرات المعارك (٢).
الحروب الداخلية وأسبابها:
إن السبب للحروب الداخلية هو التنافس على الإمام، ومبعث هذا شيء واحد هو وجود العدد الكافي من الهاشميين الذين كانوا يُحَتِّمُون على أنفسهم وجوب القيام بمجرد إحساس أحدهم بشيءٍ من الفضل على الآخر، ومع هذا فإنَّه لم يحدث في الغالب وخصوصًا فيما بعد القرن العاشر الهجري أنْ مات إمام ولم يعقبه إمامان أو أكثر، كل منهم يرى أنَّه حقيق بالإمامة، وهذه الرغبة هي التي ساعدت الدولة على الاستمرار والبقاء طوال عدة قرون بغضّ النظر عما كانت تجرّه من التطاحن والانقسامات التي لا يتسع المقام لذكرها، ثم ما خلّفته من ضغائن وأحقاد بين القبائل جعلتهم يعيشون في صراع مستمر وفوضى مستحكِمة.
يقول أحمد حسين شرف الدين في وصف الحالة الداخلية لليمن (٣):
عندما نتصفح كتب التاريخ في هذا الوقت بالذات نجد أن اليمن قد عاش حوالَي قرنَيْن من الزمان كلها فوضى وقلاقل وفتن داخلية، وإن القبائل اليمنية قد سئمت
_________
(١) المرجع السابق ٢٤٣.
(٢) تاريخ اليمن السياسي ٦٧.
(٣) اليمن عبر التاريخ ٢٤٣.
المقدمة / 14
هذا الوضع الذي أصبح فيه معظم الأئمة من آل القاسم يتكالبون على الحُكم ويتناحرون على كُرسيّ الإمامة تاركين وراءهم رعاية الأمة، والعمل على نشر العدل وإقرار الأمن في البلاد.
كما نجد أن البلاد قد تفرقت إلى شِيَع وأحزاب نتيجة لقيام عدة أئمة في آنٍ واحد كل منهم يقود الحملات ضد صاحبه ويؤلّب عليه القبائل ثم يناجزه الحرب كما حدث مثلًا بين المهدي صاحب "المواهب" وبين ابن عمه المنصور الحسين بن القاسم من جهة، وكما حدث أن قام أئمة خلال خمس سنوات فقط.
هذا وصفٌ عام للحالة وحينما نتصفح التاريخ ونرصد أحداثه في هذا الزمن نجد أنَّه بعد موت المتوكل إسماعيل ١٠٨٧ قامت القيامة على اغتنام الإمامة فقد قام أحمد بن الحسين صاحب "الغراس" وتلقب بالمهدي، ثم أعقب هذه الدعوة ظهور دعوة القاسم بن محمد -بشهاره- وأجابته الأهنوم.
وظهور دعوة الحسين بن الحسن بعمران وتلقب بالواثق ثم دعوة السيد محمد بن علي الغرياني -ببرط- والسيد أحمد بن إبراهيم المؤيد -بثلا- والسيد علي بن أحمد بصعدة وتلقب بالمنصور فكان السابع.
وانتهى الأمر بأن يكون المهدي حاكمًا شريطة أن يقطع المهدي للقاسم بن محمد المؤيد بلاد حجة وعفار وكحلان والأهنوم، وتمّ الأمر على ذلك، وفي سنة ١٠٩٢ توفي الإمام المهدي أحمد بن الحسين فدعا بعده الأمير محمد بن إسماعيل بن القاسم وتلقب بالمؤيد، وعارضه بعض آل القاسم وفي النهاية استقر الأمر له وأقام في ضوران، وفي ١٠٩٧ توفي المؤيد وقام كل واحد من القاسمية بالدعوة لنفسه في شبام كوكبان -وفي صعدة- ورادع -وصنعاء- ومسور خولان، وفي النهاية تمّ الأمر للمهدي بن محمد واستقر بالمواهب بالقرب من ذمار وتغلب على معارضيه يوسف بن المتوكل وجماعته وقيدهم في -قلعة الدملوة-، ثم أطلقهم في سنة ١١٠٩ ثم أعاد الكرة مرَّة أخرى فعثر به المهدي واستفتى في أمره العلماء فأفتوا بقتله إلَّا أحدهم رجح
المقدمة / 15
حبسه فحبسه ثم أفرج عنه في سنة ١١١٣ وأقطعه بلاد سنحان، وفي عام ١١٢٤ قامت معارك بين الحسين بن القاسم بن المؤيد والإمام المهدي انتصر فيها الحسين بن القاسم حيث حاصره في مكانه المواهب وتنازل المهدي للحسين بن القاسم وتلقب بالمنصور.
هذه هي الصورة التي كانت تعيشها اليمن خلال تلك الفترة وهي جلية واضحة في الدلالة على الحالة التي عاشها اليمن آنذاك من حروب ودمار يلحق بالديار، ويساعدنا على تصور ذلك إذا عرفنا الصورة التي تقوم بها الحروب حيث تخرج القبيلة بأكملها للحرب تاركة ديارها ومزارعها، ثم إن اليمن بلد مغلق يعتمد على نفسه في السراء والضراء، كل هذا يعطينا صورة لما كانت عليه حياتهم اليومية وحياتهم الاجتماعية.
وما كانت الحياة الاجتماعية إلَّا صورة للواقع السياسي فتلك الحروب الدامية المستمرة المتصلة الحلقات التي لا تكاد تقف بين الأئمة قد أثَّرت على الحياة الاجتماعية تأثيرًا بينا (١).
على أن استقرار الإمام المغربي في صنعاء وهي بلد ربما كان لها وضعها الاستقراري لبعدِها عن القبائل -ساعد على نشر العلم بها وبقائها بعيدة عن الحروب وهذا ما سنراه في الحالة العلمية
الحالة العلمية:
تنفرد اليمن بصفات خاصة بوضعه السياسي -الحكم الإمامي- والقبلي. وبالمذهب الزيدي. وقد استمر على هذا ردحًا من الزمن وكان لصيحات محمد بن إبراهيم بن الوزير (ت ٨٤٠) أثر في ترك المذهب والانفتاح الفكري على المذاهب الأخرى وبقيت صيحات ابن الوزير زمنًا حتَّى استجاب لها العلامة صالح بن مهدي
_________
(١) انظر: تاريخ اليمن السياسي ص ٢٢٦، وتاريخ اليمن الثقافي، واليمن عبر التاريخ ٢٤٤.
المقدمة / 16
المقبلي (ت ١١٠٨) الذي ألف "العَلَم الشامخ في إيثار الحق على المشايخ". وهذا الإِمام المغربي شرح بلوغ المرام، والإِمام الشوكاني شرح المنتقى للمجد ابن تيمية.
وحينما ننظر إلى التعليم نجد أن المدن الكبيرة ينتشر فيها العلم والدين، فشهدت حركة علمية لا بأس بها والسبب في ذلك أن أهل المدن يكون التأثير القبلي عليها ضعيفًا، ثم إن الحروب التي دارت بين الأئمة كانت بعيدة عن صنعاء، بل ولم يؤثر الفقر وشظف العيش على طلب العلم. يصف أحد طلبة العلم حالة الطالب وحرصه على العلم مع شظف العيش قائلًا:
كم بها من طالب فقير ... يقنع في الأرزاق باليسير
لا يجعل الفقر له ذريعة ... إلى اطراح العلم والشريعة
موزع أوقاته شطرَيْن ... على الذي ينفع في الدارين (١)
وحينما نقرأ "أدب الطّلب" (٢) للإِمام الشوكاني نجد صورة لما كانت عليه المدارس والكتب، فقد ذكر كتب التفسير والحديث والفقه وأصوله والنحو والبلاغة وآداب المناظرة وكتب المنطق.
وكانت إجازات العلماء مستمرة للطلاب يجيزون فيها طلابهم إيذانًا بالانتهاء والتأهيل للتعليم، وإليك صورة من ذلك:
فقد أجزت ما قرأ ... في فقه آل المرسل
وإنني أجبته ... إلى بلوغ الأمل
منها تصانيف رقت ... على محل زحل (٣)
بعكس الأرياف التي قَلَّ فيها العلم فانعكَست على أوضاعهم السلوكية، قال الجرموزي واصف الحال:
_________
(١) الأدب اليمني ما بين ١٠٤٥ - ١٢٨٩.
(٢) أدب الطّلب ١٠٧.
(٣) الأدب اليمني ٨٥.
المقدمة / 17
جهلة غمر وأنعام مكلفون لا يوجدُ فيهم من الألف من يصلِّي أو يعرف شيئًا من التكليف الشرعي ولا العقلي.
ويصف سلطانهم بأنه جاهل لا يعرف شيئًا وأنه كانت تصله رسائل من الإِمام فكانت تُقرأ عليه فلا يعرف معانيها، وربما يضحك ويقول: هذا كلام مليح ولكن وِش يبغي مني الزيدي (١).
هذه صورة للناحية العلمية، على أن قلة الكتب التي وصفت أوضاع اليمن في هذا العصر مع أن أكثرها لا يزال مخطوطًا جعلني لا أستطيع أن أقف على الصورة لذلك العصر وما ذكرته في هذا لعله يؤدي الغرض في الجملة. وبالله التوفيق.
ولادته ونسبه وأسرته:
إحدى وسبعون عامًا قضاها قاضي صنعاء ومحدثها وعالمها الحافظ الحسين بن محمد بن سعيد بن عيسى اللاعي المغربي في التدريس والقضاء والإصلاح بين النَّاس إذ كان مولده في صنعاء سنة ١٠٤٨.
وبيت آل المغربي في بلاد اليمن من بيوتات العلم يمثل سلسلة توارثت العلم وله ولأخيه الحسن ذرية صالحة. قال الشوكاني (٢): ولهذين الأخوين الحسن والحسين ذرية صالحة هم ما بين عالم وعامل إلى الآن وبيتهم معمور بالفضائل.
أما أخوه الحسن (٣) فقد ولد بصنعاء سنة ١٠٥٠، وأخذ عن أخيه القاضي الحسين بن محمد وعن القاضي محمد بن إبراهيم السمولي كان من محاسن اليمن، له حاشية على "نشر القلائد" للجزي في أصول الدين.
وقال صاحب "نعمات العنبر" (٤): هو العلامة ناموس أهل التحقيق
_________
(١) تاريخ اليمن السياسي ١١٠.
(٢) البدر الطالع ١/ ٢٣٠.
(٣) و(٤) نشر العرف ١/ ٥٠٠ - ٥٠١.
المقدمة / 18
والمتفرد بالنظر الدقيق، نشأ مجتهدًا في تحصيل العلوم، فائقًا لإِثر أخيه الحسين فأدرك ما أدرك وسلك في تحقيق الفنون كل مسلك، كان فصيحًا ناطحًا ناثرًا سليم الصدر، متواضعًا مع الطلبة وغيرهم من سائر المسلمين.
فمنهم (١) القاضي التقي الحسين بن أحمد بن حسين المغربي الصنعاني، كان فاضلًا زاهدًا مشغولًا بالعلم لا يدع الصَّلاة في جماعة بجامع صنعاء كأخيه علي بن أحمد بن الحسين في السمت والإِخبات، وهو من المعتذرين عن الولايات بعد أن طلب إلى ذلك، توفي ثاني ذي القعدة سنة ١٢٢٣.
وعلي بن أحمد بن الحسين المغربي ترجم له صاحب "نيل الوطر" فقال: القاضي علي بن أحمد المغربي الصنعاني، كان عالمًا فاضلًا عابدًا ناسكًا مشغولًا بالعلم لم ينطق ابتداء إلَّا لضرورة، ولا يدع الصَّلاة في جماعة، يلازم جامع صنعاء ليله ونهاره، توفي سنة ١٢٢٣ في ثالث شوال (٢).
ومنهم:
القاضي الحسين بن محسن بن حسين بن محسن بن علي بن الحسين بن محمد المغربي ولد بصنعاء ١٢٤٤ أو في سنة ١٢٤٥. كان باذلًا نفسه للتدريس والتعليم، ومع تواضع وحُسن خُلُق (٣).
ومنهم القاضي العلامة الحسن بن إسماعيل بن الحسين بن محمد المغربي الصنعاني، ولد بصنعاء سنة ١١٤١، وكان مسلمًا مطلعًا بكافة الفنون من التفسير والحديث والنحو والصرف والمعاني والبيان، مع زهد، وعفاف وتواضع.
أثنى عليه الإمام الشوكاني وقال: هو من جملة من أرشدني إلى شرح "المنتقى"، توفي ﵀ سنة ١٢٠٨ فرثاه الإمام الشوكاني بقصيدتين إحداهما مطلعها:
_________
(١) نيل الوطر ١/ ٣٧٥.
(٢) نيل الوطر ٢/ ١١٨.
(٣) نزهة النظر ١/ ٢٨٠ - ٢٨١.
المقدمة / 19
كذا فليكن رزء العُلَى والعوالم ... ومن مثل ذا يهدر كن المعالم
والأخرى مطلعها:
حض المعارف من فراقك سافح ... والعذب منها بعد بُعدك مالح
﵀ (١).
نسب "المغربي":
ونسبة بيت المغربي لأنَّه من "لاعة" وهي عزلة معروفة من لواء حجة، وهي في جهة الغرب من العاصمة صنعاء وهذا عُرْفٌ يمني إذ ينسب كل شخص إلى جهته التي يرجع أصله إليها، فإن كان من جهة الشمال من صنعاء قيل في نسبته "الشامي" كالذي يجيء إلى صنعاء من لواء "صعدة"، وإن كان من جهة الغرب من صنعاء قيل مغربي، والله أعلم.
طلبه للعلم ورحلاته:
رغم كثرة المصادر التي تحدثت عن حياة الشَّيخ فإنَّها جميعًا لم تذكر أنَّه اغترب في سبيل العلم أو أنَّه طلب العلم في غير موطنه باليمن، ويبدو لمن يتصفح معالم الفقه الإِسلامي ويقرأ ثمرات القرائح والأقلام في القرن الحادي عشر الهجري أن اليمن برغم نار الحرب التي كانت تستعر بين جنباته طلبًا للإِمامة وكان الفقر ينتشر بين أبنائه والحروب القبلية تأتي على الأخضر واليابس كان عملاقًا في العلوم الإسلامية بحيث ألف الكتب المطوّلة، ومن يطالع "نشر العَرف" بجزئيه، و"التاج المكلل" يجد مئات العلماء الذين عاشوا في هذه الحقبة.
ويبدو أن الحالة السياسية هي التي منعت من انتشار العلم وضيقت حوله الخناق بحيث يبقى الإنسان دائمًا في مكانه طالبًا للأمان وللحفاظ على النَّفس والنفيس.
وسنحاول أن نذكر بعض شيوخه الذين كان لهم أثر بارز على حياته:
_________
(١) البدر الطالع ١/ ١٩٥ - ١٩٧، نيل الوطر ٣١٩ - ٣٢٠.
المقدمة / 20
شيوخه:
إن أهم الشيوخ الذين أخذ عنهم القاضي الحسين بن محمد المغربي في مرحلة التلمذة قد ورد ذكرهم في الجزء الأول من كتاب "نشر العرف" (١) قال:
وأخذ عن القاضي الكبير محمد بن إبراهيم بن يَحْيَى السحولي، والسيد العلامة أحمد بن محمد الحوتي، والقاضي العلامة عبد الواسع العلفي، والسيد العلامة عز الدين بن علي العبالي، والقاضي الحافظ عبد الرحمن بن محمد الحيمي، والقاضي المحدث عبد العزيز بن محمد المفتي التغري، والشيح يَحْيَى بن أحمد الصابوني، والفقيه أحمد بن عبد الهادي المسوري الخولاني، والفقيه علي بن جابر الشارح، والقاضي علي بن جابر الهيل، والقاضي محمد بن علي العنسى المتوفى سنة ١٠٩٨، وأخذ واستجاز من جُلّ مشايخه المذكورين. وسأحاول أن أبسط الحديث لبعض
مشايخه الذين ورد ذكرهم:
١ - محمد بن إبراهيم السحولي (٢): كان عالمًا زاهدًا فاضلًا عابدًا حليف القرآن، كثير الخلوات، وكان خطيبًا بجامع صنعاء، ثم ولاه المهدي -الخطابة بالخضراء التي اختطها، وكان مبرَّزًا في العلوم والأدب، توفي سنة تسع ومائة وألف.
٢ - عبد الواسع بن عبد الرحمن بن محمد القرشيُّ الأموي ينتهي نسبه إلى عبد الملك بن مروان الخليفة، وُلد سنة ١٠٢٦ أو ١٠٢٧ في بلاد حيدان، ثم انتقل إلى صنعاء، وطلب العلم على شيوخها، كان له إلمام واسع بعلم النحو، وكان المتوكل على الله يقول مَنْ أراد النحو فليقرأ على القاضي عبد الواسع، له تفسير لطف على سورة الإِخلاص، وله مجموع في خُطَب السُّنة، ومختصر سماه "الوعظ النافع فيما أنشاه القاضي عبد الواسع"، توفي سنة ١١٠٨ وقبره في الغراس (٣).
_________
(١) تقاريظ العرف ٢/ ٦٢٠ - ٦٢١.
(٢) نشر العرف ٢/ ٤٣٣.
(٣) نشر العرف ٢/ ٥٨، البدر الطالع ٢/ ٩٦.
المقدمة / 21