مواجهة فؤاد
في ردهة الاستقبال في مدرسة عينطورة الشهيرة جلس الخواجة منصور والسيدة مريم زوجته بانتظار مجيء فؤاد إليهما، وكان رئيس المدرسة يصف لهما حسن أخلاق وتهذيب فؤاد وسروره بنجابته وذكائه، وهو غافل عما يخامر قلبيهما وعن سبب زيارتهما؛ إذ ذاك وبعد برهة دخل فؤاد وهو يكاد يرقص فرحا من قدومهما إليه، ولكنه لم يلبث أن تراجع خطوات إلى الوراء بعد أن أدار نظره في الغرفة ولم ير بها سوى والديه، وحالا زالت عنه تلك الدلائل السارة، وبدت مكانها هيئة الكآبة والحزن، وكان والده ينظر إليه وهو عارف سبب حزنه، أما والدته فقد عرفت ذنبها ولكن كبرياءها التي كانت في حرب دائم مع حنوها وحبها منعتها عن إظهار الشفقة والحنان إذ ذاك، ولما سألها ولدها عن بديعة سرا أجابته إنها تخبره متى خرجا من القاعة.
وبعد أن استراحوا وقدمت لهم المرطبات، طلبت السيدة مريم من ولدها أن يخرج معها إلى حديقة المدرسة، وبقي والده مع الرئيس يتحدثان، فمشت تلك الوالدة مع ولدها ولا قدرة لها على مباشرة الحديث؛ لأنه كان مؤلما، وكان هو ينتظر بفارغ الصبر ابتداء ذلك الحديث، ولا يحب أن يسألها تأدبا. وكانا قد قطعا نصف الحديقة تقريبا والوالدة لم تتكلم بعد، ففرغ صبر الشاب وقال: إنني أخشى امتناعك عن الكلام يا أمي، فماذا جرى لبديعة فلم تأت معكما؟ قال هذا ونظر إليها ليسمع جوابها. أما هي فلبثت مطرقة إلى الأرض بدون كلام، فقال الغلام ثانية وقد زاد انشغال باله: أستحلفك بالحنو الوالدي يا أماه إلا صدقتني الخبر؛ لأن قلبي يكاد يتقطع من سكوتك.
فرفعت نظرها إليه وقالت: لو لم تكن مهذبا لما تجرأت على إبلاغك الخبر بنفسي ولكن ... فقاطعها ولدها الكلام وقال بتضجر: أرجوك أن تحذفي المقدمة وتقرئي الفصل، أخبريني الخبر مجردا؛ لأن حشاشتي قد ذابت ولو كنت تشعرين بقلبي لرحمتني. أخبريني ماذا جرى لبديعة؟
ولما قال هذا الكلام شعرت هي بتمزق أحشائها أيضا، ولكن تلك العدوة اللدودة بثوب الصديقة المخلصة - وهي «الكبرياء» - كانت واقفة لها بالمرصاد فلم تكد تهن حتى استرجعت قواها وقالت: «إن بديعة سافرت إلى أمريكا.» وكان إذ ذاك قد أشرفا على مقعد من حجر، فارتمى الشاب على ذلك المقعد وقال بصوت عال: «بديعة سافرت!»
أجابت والدته بهدوء: نعم إنها سافرت.
فقال الشاب بانكسار، ونظر إلى والده نظرة تفتت كل قلب إلا قلبها: قولي ماتت يا أماه ولا تخافي؛ إذ إن سفرها من المحال، فلماذا سافرت؟ ومع من سافرت؟
أجابت برزانة: لماذا سافرت؟ ذلك لأنها خائنة! ومع من سافرت؟ مع ذلك الخائن مثلها ابن خالتك نسيب!
فانتصب فؤاد واقفا، وقال غاضبا بصوت متهدج: ماذا تقولين؟! إنني لم أفهم كلامك فأرجو التصريح؛ لأن قلبي يتفتت. ولو كان الصخر مكان قلبها لتفتت فلم يكن انفجار ينابيع دموعها شيء كثير إذن وهي واقفة أمام ابنها تنظر إلى حزنه الشديد الذي سببته له إشباعا لكبريائها، التي ساعدتها على التجلد الآن فقالت له: لا أقدر أن أقول غير أنه بعد مجيئك إلى هنا ابتدأ تاريخ محبة نسيب وبديعة، وإذ لم يقدرا على الاقتران هنا سافرا إلى أمريكا مقترنين أو غير مقترنين لا أعلم ...
فكرر الشاب قوله: سافرت إلى أمريكا، هي ونسيب! إنني لا أفهم كل هذا.
Página desconocida