وكان أديب ينظر إليها باحترام، وبقي واقفا وهي جالسة لزيادة في احترامها، ومع أنه لم يعرف ما هي أفكارها تماما فإنه عرف بأنها مضنكة للغاية تستدعيها الظروف الحاضرة، ولو عرفت بديعة كم هي شريفة نفس ذلك الشاب وكم هي مخلصة عواطفه لما تأخرت قط عن طلب حمايته التي كان يبذلها لها بدون مكافأة؛ قياما بواجب مروءة الرجل نحو المرأة.
ولما انتهت بديعة من أفكارها نظرت إلى أديب وقالت: إنك قد سمعت معظم القصة، فأرجو أن تجلس لأسردها لك.
ولما سمع الشاب قصتها حزن حزنا شديدا؛ لأنها كانت موضوع آماله الحاضرة ونجمة حياته المقبلة، وكان يود أن تكون له معها فرصة ليبوح بما في ضميره من حبها، ولم يستطع ذلك لتباعدها عنه وهربها من مخاطبته على حدة مخافة من هذا الأمر.
ولم يكن أديب يظهر حبه للفتاة في حركاته وكلامه ونظراته أمام الناس؛ لأنه أديب كاسمه ويعتقد بأن الحب مقدس لا يجوز عرضه للنواظر في كل ساعة ووقت، بل يجب أن يصان في القلب ليبقى على بهائه، وبهذا يكون الحب صادقا لا كاذبا، ويكون كقطعة نفيسة يخاف الناس عليها فيحتفظون بها، ولا يظهرونها إلا وقت اللزوم، وكان أديب دائما يقول: على الشاب العاقل كتم سر حبه في قلبه وامتلاك عواطفه متى كان مع من يحبه في مجلس ما، ويجب أن ينسى ذلك الحب قطعيا، فلا يظهره في عينيه وحديثه وأحيانا «تنهداته».
قال: هذه الأمور من الخفة والطيش وهي شائنة إن صدرت عن محبين سواء كان بعد الزواج أم قبله؛ لأن الزوج أو المحب الذي يعامل خطيبته أم زوجته معاملة متطرفة في خصوصيتها أمام الناس يكون يحتقرها، وهو مطالب باحترامها سواء كان بالنظر أم القول أم الفعل.
ولذلك لم يظهر عليه ميل إلى بديعة أمام الناس قط؛ لأنه كان يعاملها كما يعامل غيرها ولكن بأفضلية هي لها، من حيث أدبها وعقلها وإعطاء كل ذي حق حقه من التعقل، مع أن أديبا كان يحفظ لبديعة حبا ساميا عظيما قدرته هي قدره، وإن لم تشعره به. وكان لم يزل لأديب بارقة أمل فلما هدأ روعها قليلا قال لها بلطف: سمعتك تقولين لنسيب بأنك متى أحببت رجلا كما أحببت فؤادا تقترنين به، وأظن أن هذا ما حرك فيه ساكن الغضب.
فاضطرب قلب بديعة لإدراكها ما وراء كلامه من المعاني وقالت إذ عجزت عن السكوت: إنني قلت ذلك.
قال أديب: كم يكون سعيدا من بين رفقائه ذلك الذي يحظى بجوهرة يتيمة بين النساء. ورمقها بنظره ليقرأ أفكارها، أما هي فلم تدر بما تجيب، وللحال سقطت دموعها، وقالت بزفير: كفى كفى يا خواجة أديب؛ فإن ما بي يكفيني ولا أقدر على تصور الصديق الوحيد فالشرف في العالم يغلق بوجهي آخر أبواب الفرج ...
قال أديب: كأنك ترين بحب الناس لك ظلما؟ فإن كان هذا فلم لا تعاتبين ربك يا بديعة إذ جعلك بهذه الصورة النفسية والجسدية؛ حتى أصبح حب الناس لك أمرا مقررا؟! ولكن الحب الصادق والشريف منه ليس ظلما. قالت: نعم هو ظلم؛ لأني تعيسة جدا في الساعة الحاضرة وأرى بأن كل معروف لا أقدر على مكافأته لا يزيدني إلا تعاسة.
إذ ذاك قال أديب بلطف: إن كلامك يشف عن اعتقاد تام بصداقتي وثقة بشرفي، فدعينا نترك أمر الحب جانبا يا بديعة واسمحي لي بإلقاء خدماتي ومساعداتي على قدميك؛ فإن الصديق لوقت الضيق وأنت في أشد الأوقات ضيقا الآن، وتحتاجين إلى مساعدة، أنا لا أزعجك، أنا أحبك حبا عظيما صادقا وهذا الحب يدفعني إلى مناصرتك بما في الطاقة، فإن بدا لي وميض أمل كما أرجو فتكون سعادتي تامة، وإلا فحسبي أن أكون خادمك المخلص وأن تكون خدمتي لمنفعة من أحب، وأنا أرضى بالقليل إذا لم أحصل على الكثير يا بديعة، أنا أخدمك وأساعدك بكل أمانة ولا أقول بأن حبك ليس غايتي الوحيدة. كلا، بل أقول بأنني إذا لم أحصل عليه في المستقبل فلا أتهدد ولا أتوعد بل أرضى أن أكون خادمك المطيع وأخاك الصادق المحب.
Página desconocida