الفصل الثالث عشر
الانتقاد
وصل أديب إلى المحطة، فوجد القطار متأخرا عن ميعاد وصوله، فأخذ يمشي ذهابا وإيابا في المحطة بانتظاره، ورجعت إليه أفكاره؛ لأنه كان قد سئم معيشة العزوبة الناشفة المنفردة، وتاقت نفسه إلى محل يستريح فيه بعد عناء شغله المستمر، ويرى فيه وجها ضاحكا يستقبله، ويلمس يدا لطيفة تشتغل لراحته وسروره، ويناجي قلبا مخلصا طاهرا ينفتح له كلما دخل وخرج من ذلك المكان الذي هو البيت. فقال: يعود كثير من الشبان إلى وطننا لأجل الزواج، فلا يصلون إليه حتى يبتدئوا بالمراقبة من أول يوم، ولا تنقضي عليهم أيام حتى يخطبوا وبعد شهور يتزوجون، وبأقل من سنة، ويرجعون إلى أمريكا فيكونون قد عقدوا زواجهم على الطيش والعجلة قبل أن يختبروا أخلاق الفتاة أو تختبر هي أخلاقهم، وبعد أن يأتوا إلى هذه البلاد حيث زوابع وعواصف التمدن العصري تهب وتزعزع أسس قلاعهم التي لا تكون مبنية على صخر، وهذا ما لا أفعله؛ لأن الزواج حكمة وتبصر لا متاجرة ومضاربة.
ثم إن كثيرين هنا يتزوجون ولا يسعدون؛ لأن أساس زواجهم لا يبنى على المساواة والحب بل على مال الشاب والفتاة، أو على النظر باضطرار الشاب إلى الاقتران بامرأة؛ إما لتشتغل معه، وإما لتساعده وتوفر عليه باقتصادها، وإما لأنه يريد أن يتزوج وهو يجهل الزواج. فلعمري إنني لا أفعل هذا قط؛ لأن الزواج أصعب الأمور التي يأتيها الإنسان والمستوجبة للتحذر والروية. فسوف لا أتزوج غير الفتاة التي تصلح أن تكون زوجة فاضلة، وذلك بعد اختبارها؛ لأنني لا أطيق الافتكار بأنني بسعيي وراء هذا الائتلاف المقدس يجب أن أميت قلبي وقلب فتاة غريبة وقلوب أولاد في المستقبل.
وفيما هو على ذلك صفر القطار مقتربا حتى وقف، فتقدم إليه، ولما خرج الركاب كان كله عيونا تراقب، فلم ينظر القادمات، فقال في نفسه: إنهن لم يأتين.
ونزل من القطار بعد أن فتش كل عربة فيه فانزوى على الرصيف منتظرا مرور الركاب، ولكنه لم ير أحدا، فهم بالذهاب، وإذا بصوت عذب قد رن في أذنيه وجاء من ورائه خارقا أعماق قلبه، وكان الصوت صوت بديعة التي قالت: أظنه لم يأت. فنظر الشاب يمينا وشمالا ليرى من أين صدر ذلك الصوت العذب الذي تزيده عذوبة تلك اللغة العربية المحبوبة التي لفظ بها. وحانت منه التفاتة فرأى في زاوية أخرى ثلاث فتيات واقفات، ومنظرهن يدل على القلق وجهل المكان، فظن أنهن فتياته ولكنه ما لبث بعد أن نظر إليهن مليا أن حول وجهه وقال: كلا، إن هؤلاء أمريكيات أم أوروبيات؛ لأن ملابسهن لا تدل على أنهن سوريات في أول دخولهن لأمريكا. ولشدة انذهاله سمع ذلك الصوت مرة أخرى، وكانت المتكلمة الآن جميلة، فقالت: أظن أن ذاك هو الخواجة أديب ... فنظر أديب بغتة وإذ ذاك تحقق بأن هؤلاء الفتيات هن اللواتي يطلب. فمشى نحوهن بقدم ثابتة وهو معجب بهن. ولم تتم جميلة كلامها حتى نظرت الفتيات إلى أديب الذي وقف أمامهن مسلما منذهلا؛ إذ رأى ترتيب ملابسهن ونظافتهن وظرفهن، مع أن كل تلك الملابس كانت من الأقمشة المعتدلة الثمن ولكن ترتيبها ونظافتها صيراها تظهر نفيسة جميلة.
أمر أديب نظره على الفتيات الثلاث، فحسب ذات اللون الأبيض الأحمر والعينين السوداوين والشعر الأسود والقد الأهيف - وهي بديعة - أجمل الثلاث، وحسب لوسيا التي كانت أطول من بديعة قامة وأكثف منها لونا، أو أن لونها كان حنطيا مشربا بالحمرة وعيناها كستناويتين بلون شعرها ثانيتهن بالحسن. وأما جميلة فلم يحسبها جميلة أبدا؛ لأنه لم يكن فيها ما يروق سوى عينيها السوداوين اللتين زادهما ذلك الهم الداخلي ذبولا مؤثرا يفوق تصور البشر. ومع أن أديبا أعجب كثيرا بجمال الفتاتين وببساطة بديعة وهيئتها المحزنة، فلم يجزم بالحكم على أيهن أجمل حتى يجربهن ويرى من هي التي تفوق الكل بجمال نفسها فتكون أجملهن لا محالة.
وفيما هم جالسون في العربة عند ذهابهم إلى بيت التاجر بدا لبديعة من حديث أديب ما أقلقها؛ لأن الشباب أظهر لها التفاتا خاصا، وظهر منه إليها ميل لم يكن لرفيقتيها مثله.
ولا شيء يظهر كرم السوري المفرط وبذله المشكور مثل وقت الاجتماع والفرح؛ فإن أديبا في تلك الليلة دعا جميع أصدقائه والمتعاطين معه من السوريين، الذين حسب العادة تجمعوا ليسلموا على بنات وطنهم، وكانوا بدون استثناء معجبين بجمال وتهذيب بديعة ولوسيا، وانكسار وحزن جميلة التي لم تكن تقوى على إخفائهما بل كانت الأفراح تزيدها انقباضا.
واندفاعا بأمر خفي هو غير حب الربح المقبل من الفتيات أو القيام بواجب الضيافة، أظهر أديب في تلك الليلة جودا فائقا، وأحضر كثيرا من براميل الجعة وقناني المشروبات الروحية، وكان يدور بها على الجمع تكرارا وهو جذل مسرور؛ مما جعل العيون متجهة إليه وألسنة بعض الناس تلذعه بكلام التلميح، وهو يبتسم لكل هذا كأن شيئا أسمى من كل ما سواه كان يحقر الأمور في عينيه.
Página desconocida