فأثار كلامها في قلبه كامن الغيرة والحقد، ولكنه عرف من هي التي يخاطبها، فلم يتظاهر بشيء بل تبسم متصنعا، وقال: «هذه حالة الدنيا»، فإنها شاءت وتشاء أن تهب بعض أبنائها ما لا يستحقون، بينما ...
ثم غير موضوع الحديث وقال: لا أكتمك يا بديعة أنني أشبه السعادة بجوهرة ثمينة، قد توجد عند من لا يعرف لها قيمة، إما لحصوله على كثير مثلها، وإما لجهله نفاستها، بينما يكون سواه متحسرا عليها وهي لكل غني في الدنيا، فيا سبحان الله!
فعرفت بديعة معناه، وقالت برزانة: وهب أن الأمر كما قلت حضرتك، فهل عدم معرفة صاحبها بقيمتها تذهب من هذه القيمة شيئا؟ وهل يبخسها الناس قدرها لأجل ذلك؟
فأجاب هو مسرورا برضاها عن الحديث قائلا: كلا، كلا، إن الجوهرة جوهرة أينما كانت، ولكن أليس الفرق بين وجودها في التراب أو وجودها على الجسم عظيما؟ إنها في المكان الأول جوهرة غير معروفة، وفي المكان الثاني معروفة من الناظرين. وهل من العدل أن يذهب نورها البهي الذي ربما خفي في حياة شخص قد لا يحتاج إليها وله من غيرها أضواء؟ وهل مكانها على الصدر مثل مكانها في الصندوق؟ كلا! - إن المعنى من كلامك معروف، وكلامك عنه مصيب، ولكن بعد التحقيق عما إذا كان الأمر كما قلت. - وهل من شك في ذلك وقد ظهرت لك الحقيقة التي لا ريب فيها؟!
فعرفت بديعة عند هذا الحد أنها قد تطرفت بالحديث الذي ربما لا تكون عاقبته حميدة، وقالت: اعذرني يا خواجة نسيب على تطرفي بالحديث؛ فإنه ليس من شأني أن أتكلم عن أمر تركته ورائي وبعد شهر أكون بعيدة عنه ألوفا من الأميال.
فنظر إليها الشاب بلهفة وكآبة حقيقيتين وقال: هل صحيح ما تقولين؟ وهل ذهابك إلى أمريكا مقرر أم هو نتيجة الغيظ؟ - إنه نتيجة الغيظ ومقرر أيضا. - آه يا بديعة! أرجو أن لا تفعلي؛ لأنه إذا لم يكن فؤاد - لسوء حظه - قدرك، ففي هذا العالم من يفعل ومن يحبك حبا لم يمنعه عن إظهاره لك قبل الآن غير الشرف؛ إذ لم يكن له حق بذلك، وأنت مقيدة. فهل تحتقرين حبي يا عزيزتي ولا تضيعين حياتك سدى بذكر من خانك! إن حياتك ثمينة، ومن الجهالة أن لا تنتشليها من وهدة الشقاء مع حياة أخرى لا تكوني شيئا بدونها.
ومن العجب أن هذا الكلام لم يؤثر في قلب بديعة شيئا؛ لأنه كان قد مات عن كل عاطفة حب نحو أحد بعد أن كلمها فؤاد لأول مرة، فأجابته عنه بكل هدوء قائلة: لا لزوم لأن تغتاب ابن خالتك بالكلام يا سيدي. أما كلامك فهو صادق وشرف عظيم لي، ويا حبذا لو كنت قادرة على مجاوبتك عليه بغير القول بأني مقيدة لا حرة. - ولكن أليس من التشبث المضر أن تقولي عن ذاتك هذا القول بعد أن فعل معك فؤاد ووالدته ما فعلا؟ إن هذا من الجنون! - ربما حسبته أنت هكذا أما أنا فإني أحسبه «عقلا»؛ لأن موقفي موقف تحذر لا تهور الآن إلى أن أتحقق الأمر من فؤاد نفسه.
لا أعلم كيف أجيبك على حديثك الذي يناقض بعضه بعضا، ألم تقولي الآن بأنك مسافرة إلى أمريكا وسوف لا ترين فؤادا فيما بعد، أم أنك تنوين زيارته بالمدرسة؟ - كلا، إن هذا لا يكون أبدا، وأما مشاهدته فقد تكون بعد رجوعي من أمريكا إذا حييت «وإن غدا لناظره قريب». فعرف الشاب بأنها تكتم عنه حقيقة أفكارها، وأنها تهزل، وأراد زيادة امتحانها فقال: لا غرو أن تبعث جولة جنسك؛ فإن المرأة يعميها الحب فلا تعود تنظر الحقيقة من الوهم فيه، وتصم أذنيها عن نصيحة كل مخلص؛ لأنها تضم بما تحب ثقة عمياء، فلا تعود تصدق فيه كلام أحد، ومن قال بأن «عين الحب عمياء» فهو صادق.
فاغتاظت بديعة من كلامه ونظرت إليه نظرة ملؤها التوبيخ قائلة: لا يحلو للرجل شيء مثل التهكم على المرأة حتى في وسط كلامه الحبي لها، ولو كانت أقرب الناس إليه، فقد أصابنا بكم أيها الرجال كما جاء في ذلك المثل من أنه إذا أكلت الفأرة الجبنة يقولون: أكلتها الفئران؛ كأن النساء بعقل ومبدأ وطبع واحد، وما هكذا هم الرجال. وأنا مع أنني لا أنكر قولك عن ثقة المرأة بمن تحب، فكواحدة من هذا الجنس أفتخر بهذا القول وأقسمه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
Página desconocida