قالت بديعة بخضوع: وهل مثلي من تقابل الفضل بالنكران، والنعمة بالغموط، والسعادة برفضها؟! - هذه هي النقطة التي اتخذتها محورا تدور عليه أقوالك. فما هذا الكلام يا عزيزتي الذي تشتم منه رائحة العبودية وعدم الاستحقاق؟ ما هذه الأوهام التي لم أقدر إلى الآن على نزعها من أفكارك، فهل أنت عبدة وقد تحرر العبيد؟! أو أنت حرة وكل روح من الله حرة؟! كيف جاز لك أن تحسبي حبي «فضلا» عليك مع أنه واجب مقدس؟! ومن يا ترى ينظر إلى هذا الوجه الجميل ولا يحبه؟! ومن يسمع هذه الألفاظ العذبة ويقدر على الاستغناء عن سماعها؟! أو من يعرف حقيقة هذه النفس المضيئة بالفضائل وراء هذا الوجه الجميل ويرى السعادة بدونهما؟! فمن هو منا بعد هذا التصريح ممنون للآخر، ومن هو منا عبد للآخر، إذا كانت العبودية جائزة وهي محرمة بكل شيء؟! أأنا لأنني أقدم لك قلبا لم يخامره الحب قبل أن رآك وعقلا لم يقدر فضل النساء الحقيقي حق قدره قبل أن أختبرك، ومالا زائلا مقابل ما هو أبدي من فضائلك؟! أم أنت من تبادلني هذه الأمور الحقيرة بأطهر وأشرف وأذكى قلب اختلج في صدر امرأة في العالم؟!
فلم يسع بديعة إلا الابتسام من كلامه هذا، وتطرفه في الوصف، فقالت: أشكر الله أني ثقيلة الجسم «والدم أيضا»، ولولا هذا لكنت أنت واقفا مدهوشا الآن إذ تراني طائرة في الجو من كلامك، ألا تعرف بأن هذه مغالاة كثيرة وبأنني لا أستحق هذا الوصف؟
فقال لها الشاب: أرجو أن تعرفيني أكثر وأن لا تخفى عليك عواطف قلبي؛ لأن أعظم سعادة للمحبين أن يفهم كل منهما حقيقة الآخر وجوهره، فأنا يا بديعة لم أقل مثل هذا الكلام لامرأة في العالم، كما أنني سوف لا أقوله فيما بعد، ولو أنني عرفتك جاهلة لما قلته لك ولو كنت أعتقده، ولكن ثقتي بعقل وشرف نفسك حملتني على التلفظ به وهو لا يزيدك إلا رزانة وكمالا؛ لأنه من خصائص المرأة العاقلة أن تزين ذاتها بميزان الحكمة والعدل، فإن قيل ما هو فيها فلا يدهشها الأمر؛ لأنها تكون تنتظره، وإن وصفت بأكثر مما فيها تحتقر الفضول من القول وتبقي على ثقتها بنفسها، بعكس المرأة الجاهلة التي لا تعرف نفسها، وأقل ثناء من الرجل سواء كان جدا أم هزلا يجعل لها جناحين فتطير، ولكنها لا تلبث أن تسقط بعد طيرانها؛ لأن جناح الوهم مكسور لا محالة.
وكان قد سكن روع بديعة قليلا وارتاحت إلى مخاطبة الشاب بعد جلوسها، فقالت له: يظهر لي أنك خبير بأحوال النساء، فيا للعجب من شاب مثلك لم يختبرهن ويعرف كثيرا عن طباعهن! - لا تعجبي من هذا أيتها العزيزة؛ فإن الله سبحانه قد جعل في الرجل خاصة هي الحب لمعرفة أخلاق النساء بأسهل طريقة طبيعية، فلا تظني أن الرجل مهما يكن عاجزا وجاهلا يعجز عن درس أخلاق المرأة بعد معاشرتها، وأما الذكي فإنه يقرؤها بعينيها من أول وقوع نظره عليها، وأنا ذو استعداد كاف للدرس الذي تسنى لي من أول نظرة إلى وجهك الجميل. ثم اقترب منها وأراد أن يدني إليه وجهها ليقبلها، فأجفلت منه وأفلتت بنزق ثم رمته بسهم من نظرها الحاد تأكد منه بأن للمرأة قدرة كافية متى استعملتها عند شعورها بالواجب تنسها ذلك الظرف والدلال والنعومة، ولظنه أنه لم يأت منكرا لأن هذا أمر شائع «ودارج» بين الشبان والشابات الخاطبين حسب بأن الفتاة لا تحبه، وإلا لما كانت مانعته فيه.
كأن بديعة لحظت ما يخامر قلبه، فأرادت أن تمنع الالتباس من أفكاره فقالت: أرجو أن لا يكون قد أغاظك نفوري يا فؤاد، فأنا أعرف ما هو الحب الطاهر وأجله وأقدسه، وقد كان ظني أن تحسبه لغة الملائكة وأن شرفه وكماله لا يكونان بغير صيانته. وأما القبلة التي يحسبها بعض الشبان والشابات اليوم موضة، فأنا لا أعتبرها كما أنني لا أعتبر أكثر الأزياء المضرة بالآداب، بل إنني أحسبها للحشمة احتقارا وعلى الحب عارا.
فقال الشاب بحزن : إن طباعك تحيرني يا بديعة؛ فإنك بالأمس منعتني من محادثتك بدعوى أني غريب عنك، فما هو عذرك الآن وقد خطبتك وصرت لك وأنت لي؟!
فقالت: صحيح أننا قد تعاهدنا على الحب وصرنا خطيبين، ولكنا لا نزال غريبين الواحد عن الآخر، ومن حقي أنا أن أحافظ على شيء هو خاصتي، وأرى سلبه مني عارا لا يمحى، كما أنه من حقك أنت إن كنت شريفا أن تعتبر هذه المحافظة وتجلها.
فنظر إليها خطيبها ورآها واقفة بعزم ثابت وهيئتها تدل على أنها تعني ما تقول، ولا أثر للتصنع على وجهها وفي كلامها، فقال: وهل أنت في شك من صدق حبي؟! - كلا، غير أنني أكرر القول بأنك غريب عني إلى أن يتم اقتراننا، وأنني بعد الآن لا أحب أن أحدثك إلا على مرأى من والديك أو أحد غيرهما، كما وأنني لا أوافقك إلى مكان ما؛ لأن هذا من شروط الحب الطاهر التي يجب أن تحافظ عليها الفتاة وهي في بيت أبيها.
فابتسم الشاب وقد تعجب من محافظتها على قواعد الحشمة النسائية، وقال: قد رضيت بكل شيء تريدينه. وقد حسب أن بديعة تكون أكثر تساهلا في المستقبل مما هي الآن، غير أنها لم تزد إلا تعصبا، بل كانت اجتماعاتهما مقتصرة على الحديث الطاهر بحضور والدتهما أو على مرأى منها كما أحبت بديعة. أما فؤاد فإن غيظه تحول إلى سرور، وصار أشد محافظة على هذه الأمور من بديعة؛ لأن الرجل متى رأى من المرأة ميلا إلى شيء وتحقق صوابيته، يميل معها إليه مهما يكن يبغضه في أول الأمر.
وكان حبهما ينمو مع الأيام، وهما كملاكين يرتعان في رياض الطهر والسعادة غير مباليين بشيء، حتى وبمراقبة نسيب والسيدة مريم لهما، وفي أحد الأيام كان الأربعة يتمشون في الحديقة بعد ذهاب الخواجة منصور إلى مصر، وبأثناء التمشي انحاز فؤاد إلى جانب بديعة ونسيب إلى جانب خالته، ومشى كل اثنين معا، فقال فؤاد لبديعة: لما وقفت معك أول مرة في هذه الحديقة ظننت أن الحب يأتي دفعة واحدة كما يعتقد البعض، ولكني الآن عرفت غير هذا، عرفت أن ذلك البعض مخطئ لأن الحب أول ما يكون دخوله إلى القلب، فهو وإن يكن عظيما فلا يتخذ له مسكنا إلا قرنة واحدة من ذلك القلب، وبعد المعاشرة إما أن يملأ ذلك القلب فلا يعود من سبيل إلى الزيادة أو النقصان، وإما يتناقص فيزول أثره من القلب بعد حين قصير.
Página desconocida