بديعة
الفصل السادس والثلاثون
التقاء بديعة بفؤاد مرة ثانية
وكان زاد بديعة على الطريق ذكرى إخلاص وسعادة ووداع أديب وجميلة، وكانت كثيرا ما تنفرد وحدها وهي تنظر من نافذة القطار وتفتكر. وبم تفتكر؟ تفتكر بإخلاص أديب لها وبخدمته النصوحة، وكيف أنه لم يتذمر عندما قالت له بكل صراحة إنها لا تحبه، ولم ينتقم ولم يمنن ولا حال دون ذهابها على أمل إبقائها بالقرب منه تعللا بتغيير فكرها من جهته، بل بذل جهده بجمعها بفؤاد «بمن تحبه دونه»، ثم عاد فسعى لإرجاعها إلى الوطن بعد بعدها عنه؛ كل ذلك رغبة بسعادتها.
ولما مرت بمخيلتها كل هذه الأفكار قالت: هل كل شبان هذا العصر يفعلون كما فعل أديب؟ أما أن كثيرين هم الذين يقفون في سبيل الفتيات الطاهرات إذا أردن التزوج بسواهم؟ أوليس منهم من يتهددون ويتوعدون فلانة؛ لأنها رفضتهم وقبلت بفلان فيثلمون صيتها ويلحقون بها الأذية أدبيا وماديا؟
نعم إنهم يفعلون ... يفعلون لأن أكثرهم يحسبون بأن الزواج عبودية وأسر، فإذا رضي الرجل عد رفض المرأة جريمة تقاص عليها؛ لأنه في عرفهم أن كل شيء وجد للرجل وليس للمرأة شيء، وقد فات مثل هؤلاء أن الزواج إن لم يكن برضى الفريقين التام فهو عذاب وشقاء؛ لأن السعادة كالنار لا تشعل بقطعة واحدة من الخشب، فعسى يعتبر هذا بعض الرجال وأن يعتبروه الوالدون أيضا؛ لأن الزواج الإجباري هو منتهى الظلم، تكون الفتاة فيه معرضة لأمرين إذا لم تكن سعيدة؛ فإما موت النفس الأبدي عن الفضائل وانحيازها إلى جانب الرذائل، وإما موتها عن كل سرور ولذة في العالم محافظة على الفضائل، والأمران من أفظع نتائج الظلم.
وكان ميخائيل يعجب من افتكارها الكثير ولا يعرف له سببا؛ لأنه كان لم يطلع على حبها لفؤاد. ولما وصلا إلى نيويورك طلبت منه بديعة أن يبقى معها أياما لتتفرج على تلك المدينة العظيمة فرضي.
وعجبت بديعة من أمر، هو أنها كانت دائما في سوق واشنطون الذي هو مجتمع تجار السوريين، وكلهم تقريبا فيه أو في جواره، ومع ذلك لم تسمع عن فؤاد شيئا.
وكانت بديعة اندفاعا بالغريزة البشرية تشتاق كثيرا إلى مشاهدة فؤاد، ونسيب ولوسيا قبل سفرها، وكانت تقول بأنها لو رأتهم لما حقدت عليهم قط، وإذا اضطرت إلى الكلام معهم تكلمهم بكل بساطة وحب؛ إذ إنها لم تكن حقودة تقول: «إذا نظرتهم عيني أقلعها.»
وكانت الفتاة تؤخر سفرها يوما عن يوم رغبة بهذا الأمر، فلما يئست منه اقتنعت بالسفر لإلحاح ميخائيل بالعود السريع إلى والدتها.
Página desconocida