وللوزير الكاتب أبي حفص بن برد في هذا المعنى قطعة نثر، مقطعة من السحر، في رسالة كتب بها عند صدره من دانية إلى الوزير الكاتب أبي إسحاق بن حمام وقد خرجا متنزهين في ما يقرب من مدينة قرطبة في زمن الربيع، يصف حسن شمائلها، ويورد شرف فضائلها، وهي_أعني القطعة_بعد صدر: "كيف شاهدت أنهارها، وقد درت عليها أخلاف الأنوار [فأتأقتها؟، وأنوارها] وقد سرت إليها خيالات الأنداء فأرقتها؟. وكيف تأملت الربيع وقد صاغ لمفارقها تيجانا؟ وفتق لمعاصمهاأردانا؟ فكأنما راسلت الأرض زهر النجوم، مع كدر الغيوم أن تبديها عند جلائها، في هيئة سمائها. وكيف عاينت انشقاق تلك الأباطح؟ كأنه فضة تحته نار، فليس لها أبدا قرار، يلبس للريح لأمه، ويسل على الشمس صمصامه".قوله: أخلاف الأنواء من حسن الاستعارة. وأتأقتها: ملأتها. وبعد هذا وقبله من المعاني الطريفة، والنوادر الظريفة، ما يحل من الأسماع محل السماع، ويجري على الأفواه مجرى الأمواه، ولكنها ليست مما قصدت إلى جمعه، ولا عنيت بذكره. قال أبو الوليد: فجاوبه الوزير الكاتب أبو إسحاق بن حمام عن تلك المعاني بشكلها براعة وبزاعة، وعلى تلك الفصول. بمثلها صياغة وصناعة، وفي آخر جوابه أوصاف في أصناف النواوير، وتشبيهات لأنواع الأزاهير تعجب متأمليها، وتعجز متتبعيها، وهي إثر ذكر الأنواء: "قد نسجت لها من زهر الربيع حللا، وسقتها من مجاجتها عذبا غللا، وأطلعت فيها آثار الغيوم أشباه النجوم، فازدانت بأبهج لبوس، وبرزت للناظرين في حلي العروس، كأنما اختلست لفظك فلبسته، أو أمكنها كلامك فتوشحته، فمن قانيء صبغ الهواء غلائله، وغذت السماء خمائله، لا يشتكي من نداها بشرق، ولا يبيت من ظمأ على فرق. حتى بدا في لون شفق. فكأنما شرب رحيقا، أولبس عقيقا. أوكأنما خاف عذلا فاحمر خجلا. يحمل من طله فرائد. كأنها أدمع خرائد. أو فاقع يجنيك تبرا، ويريك من لونه سحرا، يلقاك من حسنه في أجمل منظر، ويختال من جلابيبه في معصفر. كأنما خافت هجرا، واستشعرت ذعرا. ترو إليك بمقل حسان، لا تنطبق منها الأجفان. فكأنما تشكو سهرا، أضعف منها نظرا. إلى تحاسين قد لبست ثوب بهائها، وضحكت عند بكاء سمائها. تروقك من حسنها فنون، وترنو نحوك منها عيون. فمن بصير وأكمه، وكحيل وأمره".
قوله: "عذبا غللا"، الغلل: الماء الجاري بين الأشجار، عن الأصمعي. أبو عبيدة: الغلل: الماء الظاهر الجاري، وهو الغيا أيضا. والقانيء: الأحمر. والفاقع: الأصفر. ويقال في الأسود: حالك وحانك. وفي الأبيض: يقق. والأكمه: المولود أعمى. والأمره: الذي لا يكتحل. ومن السني البديع، [والسري الرفيع]، في فصل الربيع، ما أنشدنيه لنفسه أبو جعفر بن الأبار موصولا بمدح الحاجب وهو: [الكامل]
لبس الربيع الطلق برد شبابه ... وافتر عن عتباه بعد عتابه
ملك الفصول حبا الثرى بثرائه ... متبرجا لوهاده وهضابه
فأراك بالأنوار وشي بروده ... وأراك بالأشجار خضر قبابه
أمسى يذهبها بشمس أصيله ... وغدا يفضضها بدمع جنابه
عقل العقول فما تكيف حسنه ... وثنى العيون جنائبا بجنابه
بالحاجب المأمول أضحك ثغره ... فرحا وأنطق جهرنا بصوابه
بعماد هذا الدين والملك الذي ... تتبادر الأملاك لثم ركابه
هز الصعاد فأرعدت من خوفه ... وعلا الجياد فأصبحت تزهى به
عتباه: رضاه. وعتابه: سخطه. ووهاده: المواضع المنخفضة. ونجاده: المرتفعة. جنائبا: مقودة إليه، موقوفة النظر عليه. وقوله: "هز الصعاد": [جمع] صعدة: وهي القناة النابتة مستقيمة لا تحتاج إلى ثقاف وتقويم. وله أيضا في هذا المعنى قطعة بديعة الغرض موصولة بمدح أبي_وقاه الله بي_وهي: [المنسرح]
استبشر الدهر بعدما استبصر ... فراق منه الرواء والمخبر
وجرد الجو ثوب دكنته ... واكتست الأرض ثوبها الأخضر
وأضحكت عن بديع زهرتها ... لما بكى الغيث قبل واستعبر
مادر در الغمام منتثرا ... إلا انتحى الروض نظم ما ينثر
ولا انتضى البرق فيه أنصله ... إلا دم المحل بينها يهدر
لولا عقيق البروق حين سرى ... لم يكن الروض يثمر الجوهر
حدائق بل كأنها حدق ... تهجع طورا وتارة تسهر
إذا صبت نحوها الصبا فتقت ... للأنف مسكا من ردعها أذفر
1 / 6