الفصل الأول
القطع التي لم يسم فيها نور، ولا قصد بوصفها منه نوع قال أبو الوليد: من المستحسن في هذا الباب قول أبي عمر أحمد بن عبد ربه: [البسيط]
وروضة عقدت أيدي الربيع بها ... نورا بنور وتزويجا بتزويج
بملقح من سواريها وملقحة ... وناتج من غواديها ومنتوج
توشحت بملاة غير ملحمة ... من نورها ورداء غير منسوج
فألبست حلل الموشي زهرتها ... وجللتها بأنماط الديابيج
سواريها: سحائبها ليلا، من السرى؛ وهو سير الليل. وغواديها: الآتية في الغداة. ومن غريب الوصف في عجيب الرصف قول أبي عمر أحمد بن فرج الجياني: [الكامل]
أما الربيع فقد أراك حدائقا ... لبست بها الأيام وشيا رائقا
فكأنما تجتر أذيال الصبا ... فيها البروق أزهارا وشقائقا
متقسمات بينها وسم الهوى ... تحكي المشوق تارة والشائقا
من قانيء خجل وأصفر مظهر ... للوجد كالمعشوق فاجا العاشقا
وكأنما نثرت على أجفانها ... غر السحائب لؤلؤًا متناسقا
فإذا الصبا لعبت به في روضة ... ذكر الفراق بها بكى وتعانقا
شبه اضطرب النوار بالرياح وقرب بعضها من بعض، وسقوط الندى منها بذلك الاضطراب بالتعانق عند الفراق والبكى من أجله. ولأبي عمر أيضا فيه قطعة غربية التشبيه وهي:
يا غيم أكبر حاجتي ... سقي الحمى إن كنت تسعف
رشف صداه فطالما ... روى الصدى فيه الترشف
واخلع عليه من الربي ... ع ووشيه برادا مصنف
حتى ترى أنواره ... وكأنها أعشار مصحف
وتخال مرفض الندى ... في روضه شكلا وأحرف
وكتب عمر بن هشام إلى صديق له يستدعيه في رأس الربيع من جنة له فأحسن إحسانا يقرب على من تأمله ويبعد على من رامه: "كتبت والأرض تستطير باستطارة شوقنا إليك، وتهم أن تستقل بنا نحوك، إذ صرنا بروضة استعارت لون السماء بخضرتها، وزهر نجومها بأنوارها، وبدور تمها بأقمارها. فقد افترشنا ثوب السماء، وحوينا زهرة الدنيا، وبيننا متطلعة إليك بأعناق الغزلان، ولسمع حسك مصيخة الآذان، فإن عجلت قهقهت طربا، وتبودرت نخبا، وإن أبطأت أظلم في أعيننا النور، وكادت الأرض بنا تمور، والسلام".قال أبو الوليد: في آخر هذه الرسالة من وصف الكؤوس، وسرور النفوس بمن خوطبت فيها، وكوتب بها ما لم أعد به، ولا قصدت قصد ذكره، لكني لو فصلته منها لأخللت بها، فمن الأشياء أشياء يزداد حسنها بما وصلت به، وقرنت معه، وربما أن في كتابي مثل هذا. فمن رآه فليعلم أني إنما أسعى في استكمال الحديث واستيعاب الخبر لئلا أخل بما ابتدئ به بالنقص منه، ولست أفعل هذا إلا فيما يكون تبعا لما أقصد إلى جمعه، وأشغل بتأليفه. ولذي الوزارتين القاضي أدام الله عزه ووصل حرزه_قطعه نثر، بل نفثة سحر، جاوب بها أبا عامر بن أبي عامر_رحمه الله_ وقت كونه بإشبيلية وقد كتب إليه يسأله إباحة الخروج له إلى بعض ضياعه للتنزه في فصل الربيع. والقطعة بعد صدرها: "وقفت على كتابك_أكرم به_وفهمت ما تضمنه، وهي أوقات التنزه، وأحيان التفرج، فقد أشرقت الأرض، وزهي الروض، وأقبل فصل الربيع بكل حسن بديع، وأفصحت الطير بعد عجمتها، وأبدت النواوير غرائب زهرتها، وكست الورق شجرها، وغطت الزروع مدرها، فلست ترى إلا خضرة تسطع، وثمارا تينع، تجلو الصدى من الكبد الحرى، وتزيح الأسى عن النفوس المرضى، وقد قال ﵇: "روحوا الأنفس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد". وهذا كله بما من الله به الغيث المغيث، فله الشكر واصبا، والحمد دائما على آلائه التي تترى، ونعمه التي لا تحصى، وهذا فيض بديهته، وعفو سجيته، ولو روى لكان على أرفع على أن لا أرفع، وأبدع على أن لا أبدع، حرس الله حوباءه، وصان ذكاؤه".ومن البديع في وصف الربيع ما جاء به أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي في قصيد يمدح به الوزير بن بلشر، فقال بعد صدر منه: [الطويل]
على روضة قامت لنا بدرانك ... وقام لنا فيها الذباب بمسمع
إذا ما شربنا كأسنا صب فضلها ... على فضل كأس المسمع المتخلع
كأن السحاب الجون أعرس بالثرى ... فلاح شوار الأرض في كل موضع
رياض يضاحكن الغزالة بعد ما ... بكت فوقها عين السماء بأربع
1 / 1