ثم أصبحت مؤمنا بهذا الاتفاق، فلا أراه عجيبا، فقد مات صديقي الشيخ حسين الحكيم منذ سنين، وأمسيت يائسا من لقائه، بل الطمع في لقائه جنون، ولكني أحن إليه كأنه حي وأكاد أزوره في منزله؛ لأنسى - حين ألقاه - همومي وأحزاني!
والحق أني لا أريد الاقتناع بأنه مات؛ فليس إلى الصبر على موته سبيل، وإنما أغالط حسي، وأخادع نفسي فأتوهم تارة أنه على سفر، وأن هذا السفر طويل ، وأتخيل تارة أخرى أن الموت لا حقيقة له، وإنما ننقل من دار إلى دار - كما قال أبو العلاء - وأني سأجده في انتظاري حين أنقل إلى الدار الباقية، فإلى الملتقى يا صديقي العزيز.
آمنت بالله، فما أحوجني إلى الإيمان وما أغنى الله عني وعن إيماني، وعن جميع العالمين، وماذا يغني الشك؟ إنه لا يقف دورة الفلك، ولا يحول بين القدر وبين تصرفه في الكائنات بالمحو والإثبات، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. آمنت بأن الله قوي وأن العبد ضعيف، وآمنت بأن الله عزيز وأن العبد ذليل. ولكن أليس لي - في ضعفي وذلي - أن أطلب من الله - في عزته وقوته - أن يهبني الطمأنينة على مصيري ومصير من أفقد من الأصدقاء؟ •••
ولد الشيخ حسين الحكيم في سنتريس، من قرى المنوفية، ثم سكن القاهرة، والتحق بمدرسة القضاء الشرعي ونال منها شهادة العالمية، ثم عين مدرسا بمدارس الجمعية الخيرية الإسلامية، فقضى سنة في المدرسة الواصفيه ببورسعيد، وبضعة أشهر في مدرسة دسوق الثانوية، وقضى نحبه هناك يوم الجمعة 9 ربيع أول سنة 1337 / 13 ديسمبر سنة 1918، ثم نقل إلى القاهرة مساء السبت ودفن بها مساء الأحد - وسبحان من تفرد بالبقاء.
كان للفقيد أصدقاء ثلاثة، وما زالوا أصدقاءه وإن حجبه عنهم التراب أولهم كاتب هذه السطور، وثانيهم الأستاذ الشيخ حسن مأمون قاضي محكمة زفتى الشرعية، وثالثهم الشيخ مصطفى الجمل المحامي الشرعي؛ ففكرنا بعد موته في أن نوفيه حق الرثاء في إحدى الجرائد اليومية، فكتبت عنه أربع رسائل بعثتها إلى جريدة المنبر، ولكنها ألقت بها جميعا في سلة المهملات؛ إذ كانت لا تعرف ما نعرف من مجد ذلك الصديق، فضممت تلك الرسائل إلى صورة الفقيد، وإلى خطاب بعثه إلي من القاهرة، وخطاب بعثه إلي من بورسعيد، ووضعت هذه الذكريات في مكان حريز آملا أن يجيء يوم أسجل فيه هذا الأثر الغالي، فلما كانت الثورة المصرية وجاء دوري في الاعتقال لم يكن همي حين زارني في منزلي مأمور قسم الدرب الأحمر إذ ذاك المرحوم محمد بك فرج إلا أن آخذ معي إلى المعتقل ما بقي من آثار الشيخ حسين الحكيم؛ لتكون أنسي في وحشة الاعتقال، فلما عدت وضعتها في مكانها من جديد، وصرت أتردد إليها كما يتردد العابد إلى المحراب، ثم فتش البوليس منزلي في الصيف الفائت فبعثر هذه الأوراق، فأعدتها إلى مكانها مرة ثالثة، ولكن البوليس عاد ففتش منزلي في الأسبوع الماضي، فعزمت نهائيا على نشر هذه الآثار في كتاب البدائع لأقوم لصديقي الراحل ببعض ما يوجب الوفاء.
كان صديقي الشيخ حسين لا يرسل إلي خطابا إلا ابتدأه بوصف ما أرسل إليه من الشعر، أو النثر، ولو كنت أرى رأيه في شعري ونثري لنشرت ما بث به إلي من آيات الثناء، ولكني أرجوه أن يأذن لي بطي هذه الصحيفة فقد لا تهم القراء، وأكتفي بنشر ما يمثل سمو نفسه، وصفاء روحه، ورونق أدبه، وجمال خلقه ... فمن ذلك خطاب بعثه إلي بتاريخ 5 مايو سنة 1918 جاء فيه:
أخي، لقد حالت بيني وبين الانتفاع بآثار قلمك، والتمتع بمكنون نظمك ونثرك، ضرورة حياتي الجديدة التي أنستني كل شيء - ما عدا صداقتنا الوطيدة الأركان المتينة الدعائم - وما كان بودي - شهد الله - ولا عن رضا، ولكنها الحياة، تشغل المرء عن نفسه، وتلهيه عن واجبه، وكان ما كان.
والآن، هل لأخي أن يفتح لي قلبه، ويحلني من نفسه المحل الذي كنت أشغله من قبل؟ وهل أجد من كريم أخلاقه، ولطيف عفوه، وجميل رعايته، وحسن عطفه ما يشجعني على إحياء حب دفين، وغرام مستكن كاد يقضي عليه الإهمال، ويسحب ذيل العفاء عليه النسيان، ويذهب برونقه وبهائه باطل هذه الحياة العاتية؟
إنك إذا فعلت ذلك يا سيدي - وأظنك فاعلا - تكون قد أحسنت إلي إحسانا لا أزال أذكره، حتى يعتاق نفسي حمامها، ويهال عليها ترابها، وضممت هذه إلى نظيرتها - وهي كثير عندي - بل هي كنزي الثمين، أحرص عليها حرص البخيل بماله، والعفيف بعرضه، هي سلواي في هذه الديار النائية، والبلاد القاصية إذا ذكرتها ذكرت نعيمنا الماضي وعزنا الغابر وهناءنا السالف.
يوم كنا ولا تسل كيف كنا
Página desconocida