وكذلك اندفع الناس يظنون في هذا المحاضر الظنون، ثم أعلن فضيلة الشيخ بخيت أنه سيرد على رينان في الجامعة المصرية، فكان يوما مشهودا ضاقت فيه صالات الجامعة عن الحاضرين، فحاضرهم الأستاذ في صحن الجامعة، وهم وقوف.
وقد ظلت هذه الحركة محور الأحاديث في مصر أياما كثيرة، وفهم الناس منها أن علماء الأزهر أحياء، وأنهم يغارون على الدين الحنيف، غير أنا قرأنا أخيرا كلمة في المقطم لمخلوق غريب ذيل توقيعه بكلمة «من علماء الأزهر الشريف»، وتنحصر هذه الكلمة في نقطتين: الأولى الرد على الشيخ بخيت في ذكره أن رينان غير فيلسوف، والثانية الثناء على الشيخ مصطفى عبد الرازق؛ لأنه من آل عبد الرازق الذين أصيبوا في هذا العام مصيبة حزن لها المصريون أجمعون.
وأنا لا أنكر أن المصريين حزنوا لوفاة المرحوم حسن باشا عبد الرازق، ولكني أنكر هذه الطفولة وهذه الحطة في نفس إنسان ينتسب إلى العلماء، ويهوي بنفسه إلى الحضيض فلا يفرق بين السواد والبياض، في موقف لا يضل فيه غير عمي القلوب.
وإني لأنزه قلمي عن ذكر هذا الإنسان الذي ضاقت عليه الدنيا بما رحبت حين رأى الشيخ بخيت ينكر أن رينان فيلسوف ، في حين أن هذا المخلوق لا يفقه اللغة العربية فضلا عن لغة رينان، وإنما هو دعي غفل عنه الدهر فيمن غفل عنهم، ممن دنسوا الأزهر حين ضموا إلى قائمة العلماء.
أحسن علماء الأزهر هذه المرة؛ لأنهم انتقلوا إلى الجامعة المصرية فواجهوا ما يقال عن الدين هناك، وقد كانوا من قبل يكتفون بنقد ما يجري من هذا القبيل في مجالسهم الخصوصية، وكنت أود لو عني الشيخ الدجوي فألقى محاضرة في الجامعة المصرية في الرد على رينان؛ لأنه فضلا عن علمه يمتاز بحسن الأداء، فقد تأفف الناس جميعا من إلقاء الشيخ بخيت لمحاضرته، ولولا أن الشيخ عبد الوهاب النجار ألقى الجزء الأخير منها لحصبه الناس.
هذا حق يجب أن نجهر به، وليس إخلاصنا لأساتذتنا في الأزهر بمانع من أن نواجههم بهذه الحقيقة، بل إخلاصنا لهم يفرض علينا دعوتهم إلى نبذ هذا الخمول؛ فنحن قادمون قريبا أو بعيدا على حياة عاملة، أخشى كثيرا أن يتخلفوا فيها عن الأحياء. ولست أدري لم أشتهي أن أصارح أستاذنا الدجوي بأن ما نقرؤه له في الدفاع عن الدين لا يغني شيئا؛ ما دام لا يوجه بعض جهوده إلى إصلاح المعاهد الدينية. ولست أدري أيضا لم أحب أن أكون صريحا مع هذا الرجل الذي أشعر بأنه من صفوة المؤمنين، فقد كان الظن به أن يساعدنا - ونحن أبناؤه - على ما نقاسي في الأزهر من همجية سيصبح الأزهريون صرعاها بعد قليل.
ولو أن فضيلة الشيخ الدجوي كان من قطر غير هذا القطر وزار الأزهر ولواحقه؛ لما شك في أن العلماء ضعيفو الإيمان، وإلا فما رأيه في رئيس يفرش بيته بالبساط، ويضيئه بالكهرباء ويترك الأزهر بلا ضوء وبلا حصير؟
إن رينان على حق فيما وصف به المسلمين، نحن الذين أسأنا إلى ديننا إساءة قد لا يتجاوز الله عنها، وقد لا ينساها التاريخ، فما ذنب رينان؟ لقد ذكر أن بعض المسلمين كان يحرق المكاتب العلمية ... فما رأي مولانا الشيخ الدجوي في أن علماء هذا العصر يقتلون أبناءهم بلا رحمة ، ويسومونهم سوء العذاب .
هنيئا لك يا سيدي الأستاذ، سينصفك التاريخ؛ لأنك تعمل شيئا يحفظه التاريخ، وويل لكل طالب يرميه أهله في جحيم الأزهر فيفقد شبابه وقوته، ثم يخرج إلى العالم فلا يفقه منه شيئا ولا يعرف العالم عنه شيئا؛ لأنه كان يحفظ أشياء لا صلة لها بالعصر الذي يعيش فيه.
إننا نغضب حين يظلمنا رينان وأمثال رينان، ولكننا نتلقى المظالم باسمين حين يظلمنا كبراؤنا وعلماؤنا ... بارك الله في رينان ومن ذكرنا بخطبة رينان؛ فقد يكون لهذه الخطبة ذكرى تنفع المؤمنين.
Página desconocida