إن هناك فرقا بين عاطفة الحب وبين الحاسة الفنية، فأنا أنعم برسائلك من ناحية غير ناحية الصبابة، ولست أناجيك حين أقرؤها؛ لأنك لم تصوري بها قلبك وهو يفيض حنانا على محبك الذي يعيش في أهله كالغريب! ولولا أنك كتبتها بخطك الذي يسحرني خلوصه من شوائب التنميق، وأفضت عليها عبقا من روحك حين الاختيار، ولولا أنها منك يا فتحية؛ لعددتها من سقط المتاع! لأني لا أطرب للآداب والفنون، إلا من حيث هي وسائل إلى القلوب الصوادف، وقد منحتني قلبك، والحمد لله والحب، فما الذي حال بينك وبين إرساله إلي في ثنايا الخطاب؟
أتذكرين الكلمة البديعة التي وصلتني منك في العام السالف؟ أنا أذكرها لك الآن لتعلمي أني أعشق الروح قبل أن أعشق ما يصور الروح، تلك هي قولك في حلو العتاب «والدي واخد على خاطره من سيادتكم»، وكذلك فلتعلمي أن اللغة الفصيحة لا تحلو منك إلا بعد أن تتذوقي الآداب، وبهذه المناسبة أرجو أن لا تكتبي إلي ثانية باللغة الفرنسوية؛ لأني لم أطمع بعد في أن أسمع منك رجع الحمائم في أبراج باريس! وكم تمنيت أن تدرك الفتيات المصريات سر اللغة العربية، فيسمع منهن المصريون ما كان يسمعه توبة من ليلى الأخيلية، وما كانت تدخل به ولادة على فؤاد ابن زيدون.
عفا الله عنك يا فتحية؛ فقد أخطأت من حيث أخطأ الناس، وإني لأرجو أن لا يكون النهوض فرديا في مصر على حين أصبح خلقا عاما في كثير من الأمصار والممالك، فإن عدت إلى التقليد بعد مبعث الإبداع فسيطول اللوم والتأنيب، أما الآن فلك من غفلة الجمهور شفيع، والسلام.
كيف يحكمون؟
عزيزتي فتحية
قرأت خطابك البديع، بعد انتظاره أياما كانت أمر من الصبر وأقسى من الهجر، ولقد قبلته، ثم قبلته، حتى خفت أن تبلى سطوره من زفراتي المحرقة، ولو رأيتني وأنا أضمه إلى رسائلك السالفة، لرثيت لصبري المغلوب، ودمعي المسكوب، ولكن في سبيل الحب ما أعاني!
تسألينني عما نشره أبو الهول؟ وهل كان ذلك أول ما لقيت فيك من جارح اللوم، وقاتل التأنيب؟ وأنا أسألك لم اقتصرت في خطابك على التلميح لما كتبته الآنسة زكية ماهر؟ ألا يعد هذا إيثارا للجنس اللطيف على الجنس النشيط؟ تلك - والله - سجية الأوانس، لا يعجبن بشيء إلا إن كان صادرا عنهن، أو متعلقا بهن، ولعلك تذكرين حديث السيدة سكينة بنت الحسين حين دخل عليها الشعراء لتفاضل بينهم من وراء حجاب، فصارت تهزأ بهذا وتسخر من ذاك، ثم طربت لجميل حين قال:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة
وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث بينهن بشاشة
Página desconocida