179

Las Maravillas

البدائع

Géneros

ولقد بدا لنا أن نزور دار الكتب الأزهرية، وكانت الساعة لم تصل إلى النصف بعد الظهر، ففوجئنا بأن المكتبة أغلقت، وأن لا سبيل إلى زيارتها إلا في ضحى الغد؟ فأخذت أفكر في أمر هذه المكتبة التي لا يتمتع بها أحد من الناس، والتي تشبه دار الآثار في أن لا حظ لأحد منها إلا أن ينظر ما اشتملت عليه بدون أن تنالها يمناه، أستغفر الله، بل تشبه الرسوم الدوارس، ليس للمرء من حظ إلا أن يعرج عليها في الغدو والرواح.

8

عدنا في اليوم الثاني مبكرين لزيارة المكتبة الأزهرية، فدخل الزائرون وهم يتحرقون شوقا إلى الوقوف على حركة التأليف عند العلماء، وأخذوا يسألون عن الكتب القديمة والمؤلفات الحديثة، فقلنا لهم: إن هذه المصنفات يغلب عليها القدم إلا بعضا منها؛ مثل كتاب التوحيد للأستاذ الشيخ حسين والي، ولكن الأزهريين لا يعرفون شيئا عنه؛ لأنه في رأيهم قد خلص المسائل العلمية من المناقشات اللفظية، وهم لا يزالون مضطرين إلى طرائق البحث القديمة ليجتازوا الامتحان.

وهنا أكل إليك - أيها القارئ - وصف ما يجده مثلي من الخجل في مثل هذا الموقف، فقد تعرف أن الفرنسويين يعدون الكتاب قديما إذا مرت عليه ست سنوات، وهم لا يرضون عن العالم إلا إذا ترك ثروة علمية، فأما علماء الأزهر فقلما يعنون بالتأليف، وكذلك كانت المكتبة خالية من كل ما يصل بين الماضي والحاضر.

9

كنت رأيت أن لا أتم وصف زيارة أولئك الفرنسويين للأزهر الشريف؛ مجاراة لمن يرون في هذا الوصف خروجا على الأدب ومروقا من الوفاء، لولا أن لقيني بعض العلماء وشرح لي ما في التغاضي عن النقد من الفساد العاجل والكساد الآجل، ورغب في أن أذكر هذه الزيارة بالتفصيل، وأنا أذكر هنا ملاحظة واحدة وأعتذر عن البقية، فإن النفوس لم تتهيأ بعد لأن تتقبل كل ما ينفع، وتتجنب كل ما يضر، وخذ من جذع ما أعطاك.

كان هؤلاء الناس يسألون برفق عما لم يهتدوا إلى فهم معناه، ولقد تعرف أن كل ما في الأزهر يستوقف النظر حتى كأنه كتلة من ألغاز الحياة لا يفهمها إلا من كتب عليه أن يكون جزءا متصلا بهذه الجماعة التي تتكون منها مجموعة الشقاء، وكذلك كنت أعرف مواقع الألم من نفوس الأزهريين، ومواضع العجب من أفكار الفرنسويين؛ لأن التنافر ظاهر بين معاهد العلم هنا وهناك، ولأني أعرف الفرق بين حياتين تتفجر من إحداهما ينابيع الأمل الباسم، والعيش الوادع، وتثور من أخراهما براكين اليأس والقنوط.

ما مررنا بدرس من تلك الدروس إلا وجدنا من بين الطلبة من هجم على رأسه الشيب وانقض على ظهره التقوس، وآذن نجم شبابه بالأفول، ويكاد المسيو فور يتبين بيده ما رأت عيناه، ثم يقبل علي ويقول: أصحيح ما أرى من أن ثلث الأزهريين فارقوا سواد الشباب؟ وهل تجدب أرض العلم عندكم حتى يشيب المرء وهو ينتظر الإزهار والإثمار؟ ومتى يخلص هؤلاء من التحصيل حتى يفرغوا لتعليم الجهال؟

كان يقدم إلي هذه الأسئلة وهو يبتسم، فبدا لي أن أنشده قول ابن الرومي:

شاب رأسي ولات حين مشيب

Página desconocida