بناة الندى من أين تبنى المكارم
ولا يتوهمن قارئ أن اختلاف الشعراء في مذاهبهم الأخلاقية، مما يؤثر عليهم في الحكم من الناحية اللغوية، فإن أبا نواس في خمرياته، أفصح من أبي العتاهية في زهدياته، ولكن هناك وجها آخر للمفاضلة، وهو أن للغواية دركات، كما أن للهداية درجات، فالمثل العالي للخلاعة إنما يدركه الشعراء الخلعاء، والمثل الأعلى للنبالة إنما يدركه الشعراء النبلاء، ولكل شعر موضع، ولكل مقام مقال، فليس للشاعر أن يلبس روح الخليع حينما يريد أن يكون قدوة في المكارم، وليس له أن يلبس روح النبيل حين يريد أن يكون عمدة في المآثم، وإنما يلبس لكل حال لبوسها من جد وهزل، فيتعالى في الجد حتى يقال: نبي مرسل أو حكيم موفق، ويتراجع في الهزل حتى يقال: ماجن مازح، أو ذو صبوة خليع.
إذا جد حين البأس أغناك جده
وذو باطل إن شئت أرضاك باطله
وليس يخفى على القارئ أني هنا، إنما أحكم على أنواع الشعر وطوائف الشعراء، ولست أدعو إلى طريقة معينة أو مذهب خاص؛ فإن لذلك بحثا غير هذا البحث، وأريد أن أسأل القارئ بعد ما سلف من البيان هل الشعر في «مشروع ملنر» من الجد أو الهزل؟ وهل الشعراء فيه من الخلعاء أو الحكماء؟ •••
قرأنا للشاعر المجيد أحمد بك شوقي قصيدة في هذه الاتفاقية، كان نصفها الأول النسيب، وهو يتطلب الإسراف في الخلاعة؛ فلذلك راقنا منه أن يذكر أن قلبه لم يقلع عن الغواية وهو أشيب، وأن سرب الغواني لعب بلبه فأضله سواء السبيل، راقنا ذلك كله؛ لأنا نستملح كل ما يأتي عن طريق القلب، ولأن النسيب من الأشيب عنوان ظرفه، ولأن هذا المثل مما يتأسى به المسرفون في الصبابة وهم أحداث، ولا ننكر أن هذا مقبول ولو إنصافا للفن، وإن كنا نود لو وصف شوقي نفسه بما وصف به ابن الصمة أخاه حين قال:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه
فلما علاه قال للباطل ابعد
وكان النصف الثاني بيانا لرأيه في مشروع الاتفاق، ولا يستطيع من قرط قصيدة شوقي تلك بكلمة موجزة أن يدعي أن الحكم على هذا المشروع مما يدخل في طائفة الحكم على عتق الخمر، وصفاء الكأس، وحلاوة العين، وجمال الأنف، ورشاقة القد؛ إلى غير ذلك من الأوصاف الظاهرة لمحاسن النساء أو الأشجار أو الأنهار أو الجبال، وإنما هو حكم على آمال أمة تختلف أطماعها السياسية باختلاف عقول أبنائها البررة من علماء وحكماء وشعراء، وباختلاف الآمال ضعفا وقوة يوصف الرجل بأنه قوي أو ضعيف.
ولئن كان الشاعر حرا في اختيار النوع الذي يحبه من الحياة؛ فإنه غير حر أو غير مقتدى به في الدعوة إلى نوع من الحياة لا يتلاءم مع ماضي الشعب الذي ولد فيه، والوطن الذي درج منه، وهو عرضة لأن يوصف بضعف العزيمة، وخمود النفس، وركود الطبع، وأهل لأن ينكر عليه ماضيه الأغر، وسابقه المحجل، وأقل ما يجد الناقد فيه من العيوب أن شعره ليس شريعة عامة للشعب، وأنه بدلا من أن يتعالى إلى أبكار الأماني فهو يتسفل إلى ثيبات النوازع، فهو يدعو الناهضين إلى السقوط، ولا يحض الساقطين على النهوض. وهل أوجب للعتب من أن يختص شوقي بك جريدة الأخبار بتلك القصيدة التي لا تسوغ إلا لدى النفوس الضعيفة، ولا يبسم لها إلا من يئس من روح الله؟
Página desconocida